إيمان ديني عميق بالسلام
رحل منذ أيام عن عالم الشر جيمي كارتر الرئيس الأميركي الأسبق عن مئة عام، صاحب القيم الإنسانية الرفيعة التي كان يراها معرضة للخطر، و«التفاوض» باعتباره بديلا عن العداوة والكراهية، بين الدول والأمم، من أجل مستقبل الأجيال القادمة، وقد كان من مصادر قوته في كل المعارك التي خاضها من أجل تحقيق السلام إيمانه العميق بالكتاب المقدس، ففي كتابه القيم «فلسطين السلام لا التمييز العنصري» صدّر هذا الكتاب بكلمات من الإنجيل تقول: «إنه حين سفك أول دم بين أبنائه، سأل الله قابيل، القاتل، أين أخوك هابيل؟ وقال هابيل: أنا لا أعرف، وهل أنا الحفيظ على أخي؟ وقال الله: ماذا فعلت؟ إن صوت دم أخيك يصرخ مستغيثا بي من الأرض، والآن تكون أنت ملعونا».
وينقل من كتاب آخر له تحت عنوان (دم إبراهيم): «إن الدم المسفوح في الأرض المقدسة ما زال يصرخ إلى الله مستغيثاً به صرخة محزونة من أجل السلام».
ويهدي هذا الكتاب إلى أول حفيد له، هنرى لويس كارتر قائلا، مع الآمال بأنه سيسري السلام والعدالة في الأرض المقدسة.
معايير غير مزدوجة
لم تكن فترة حكمه ورئاسته لأميركا تتسم بهذه الغطرسة الأميركية والهيمنة على العالم، وأن أميركا وإسرائيل وحلفاءهما فوق القانون الدولي، ومعصومون من الخطأ، وأن من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها بكل الوسائل الوحشية والبربرية ولو جاوزت كل الخطوط الحمراء الإنسانية أو الدولية.
ولم يكن لهذه المعايير المزدوجة، التي تعتبر الآن العمود الفقري لتطبيق القانون الدولى في الغرب، وجود في عهد كارتر، ففي هذه الفترة (1977- 1981) حقق الرئيس كارتر بعض المعطيات المضيئة والبارزة وتحقيق حلمه العميق بالسلام منها:
1- أحاط مجلس الشيوخ علما، حسب ما يطلبه القانون الأميركي، بأن الأسلحة الأميركية، التي يجري استعمالها بشكل غير قانوني في لبنان، ستؤدي إلى قطع كل العون العسكري الأميركي لإسرائيل.
2- وجه وزارة الخارجية إلى إعداد قرار مجلس الأمن، لإدانة فعل إسرائيل في لبنان، عندما غزا الجيش الإسرائيلي لبنان، مستخدما القنابل العنقودية الأميركية الصنع المضادة للأفراد في بيروت وغيرها، وقتلت مئات من المدنيين، وخلفت آلافا منهم بلا مأوى، بالرغم من إدانته للمذبحة التي تسببت فيها منظمة التحرير الفلسطينية في استيلائها على سيارة ركاب سياحية، وقتل ركابها وعددهم 35 هكذا كان موقف كارتر في فترة رئاسته من رد الفعل الإسرائيلي على هذه المذبحة!
3- في فترة رئاسته يصدر مجلس الأمن القرار رقم 465 لعام 1980 بإدانة قرار حكومة إسرائيل الداعم الرسمي للمستوطنات الإسرائيلية في الأراضي العربية المحتلة منذ عام 1976، والأخذ في الاعتبار وجوب الحماية الخاصة للأراضي الخاصة والعامة وللملكية، وحماية البعد الروحى والديني الفريد للأماكن المقدسة، ويلفت الانتباه إلى العواقب الوخيمة الناتجة عن سياسة الاستيطان.
4 – ومن خلال هذه المواقف القوية للإدارة والإرادة الأميركية في النظام العالمي، الذي تسيطر عليه أميركا من خلال الأمم المتحدة ومجلس الأمن استطاع كارتر أن يزيل الغشاوة عن عيون بيغين رئيس وزراء إسرائيل ورئيس حزب الليكود، والذي حل محل غولدامائير، التي قدمت استقالتها في عام 1974 بعد الهزيمة التي لحقت بإسرائيل على يد العرب في حرب 1973 وكان حزب الليكود الأكثر تشدداً قد حل محل رابين رئيس حزب العمل الأكثر اعتدالا.
وكان يطالب بيغين بالسلام مقابل السلام، لا سلام مقابل الأرض، إلا أن كارتر استطاع بمواقفه من إسرائيل أن يقنع بيغن بأنه لا سلام عادل إلا مقابل الانسحاب من كل سيناء التي احتلتها عقب عدوان 1967، وتحقق السلام بين مصر وإسرائيل سنة 1979، مع اتفاق مبادئ هو منح حكم ذاتي للفلسطينيين في الضفة وفي غزة، والذي لم يتحقق بعد تركه منصبه، ولم يتحقق بعد اتفاقية أوسلو في عام 1992، والتي كانت تقضي بالانسحاب على مراحل للقوات العسكرية الإسرائيلية من الضفة الغربية وتأسيس سلطة حاكمة فلسطينية منتخبة، وفترة خمس سنوات يتم التفاوض في أثنائها على المسائل الشائكة مثل القدس، وذلك بعد اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية، وبعد اتفاقية سلام مع الأردن في عام 1994، وبعد إجراء انتخابات عام 1996 وعام 2005 وعام 2006، وجهود بيل كلينتون من أجل السلام في فترة حكمه (1993– 2001) وفترة حكم بوش الأب وموقفه الحازم من الاستيطان الإسرائيلي.
5 – كما اعترفت الولايات المتحدة الأميركية بالصين في عام 1979 خلال فترة رئاسة كارتر، لتحل الصين الشعبية محل الصين الوطنية (تايوان) باعتبارها إحدى الدول الخمس التي تحكم العالم من خلال حق نقض قرارات المجتمع الدولي ممثلا في الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
استعرضنا هذه المعطيات المضيئة في عهد كارتر لنبين الفارق الضخم بين فترة رئاسته التي لم تدم سوى فترة واحدة، وبين عهدين متلاحقين، كلاهما شر، كما جاء في أحاديث البابا فرانسيس من موقف بايدن من حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل منذ الثامن من أكتوبر عام 2023، على الشعب الفلسطيني في غزة، بالدعم العسكري والمادي والإعلامي غير المحدود وغير المسبوق.
كما كانت تصريحات ترامب القادم إلى البيت الأبيض في 21 يناير من هذا العام صادمة، والتي تتكرر منذ فوزه في الانتخابات بتهديد الشرق الأوسط بأكمله بالجحيم، إن لم يفرج عن بضع عشرات من الرهائن المحتجزين لدى حماس، دون أن ينبس ببنت شفة عن إيقاف الحرب على غزة، التي قارب ضحاياها من الشهداء على 50 ألفاً، وأضعافهم من الجرحي والمفقودين، ومسلسل الإبادة مستمر، والمفاوضات الجارية للإفراج عن الرهائن تتراوح مكانها لمزيد من سفك دماء الفلسطينيين!
وقد أصدر الكونغرس في سبتمبر 2024 القانون المسمى «قانون الإجراءات المضادة للمحكمة» الذي يفرض عقوبات على الذين يطبقون قرارات المحكمة الجنائية الدولية، أو يشاركون في أي جهد للتحقيق أو اعتقال أو احتجاز أي شخص محمي من قبل الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها ويهدد ليندسي غراهام عضو مجلس الشيوخ الأميركي، بعد مذكرة المحكمة الدولية، باعتقال نتنياهو ووزير دفاعه السابق غالانت لارتكابهما جرائم حرب، الدول التي تمتثل لهذه المذكرة قائلا: «إن قرارات المحكمة الجنائية الدولية، لا تنطبق على إسرائيل أو الولايات المتحدة الأميركية أو فرنسا أو ألمانيا أو بريطانيا لأن هذه المحكمة لم تنشأ لملاحقتنا نحن».