لابد أن نعترف بأننا فقدنا السيطرة على الانضباط الوظيفي في الإدارة الحكومية خلال العقود الثلاثة الماضية. ولمن لا يدرك الحقيقة، فإن هناك أعداداً كبيرة من الموظفين يتقاضون رواتبهم وبدلاتهم كاملة وهم في بيوتهم أو في مقاهي المولات، مما أدى إلى تراجع كبير في الإنتاجية، وضعف قيم العمل، وتلاشي هيبة القانون.
لقد أصبح أمر الحصول على الراتب وأنت في المنزل دون عمل ظاهرة مألوفة، بل إن المجتمع استمرأ هذا الفهم، وكأنه أمر طبيعي، وهو ما ساهم في تحويل الحرام إلى حلال، كما رأينا في ظواهر اجتماعية مشابهة. على سبيل المثال، ظاهرة الغش في الثانوية العامة، التي انتشرت قبل سنوات قريبة، حيث استخدمت سماعات الغش بشكل طبيعي وغير مستنكر، مما أدى إلى تضخم معدلات النجاح وزيادة نسب الثانوية العامة بشكل غير حقيقي. لكن هذه المستويات انكشفت سريعاً مع أول امتحان لهم في الجامعة، حيث شهدنا رسوب أعداد كبيرة من الطلبة. ولعل قبول جامعة الإسكندرية لسبعمئة طالب كويتي في كلية الطب خلال سنة واحدة خير دليل على ما آلت إليه الأمور في بعض المواقع الإدارية والتعليمية.
في ظل هذا التدهور، جاء فرض نظام البصمة كصعقة ضرورية لإعادة الانضباط إلى بيئة العمل. البصمة ليست مجرَّد إجراء تنظيمي، بل هي رسالة واضحة مفادها أن الالتزام بساعات العمل هو حق أصيل للمؤسسات، وضمان أساسي لتحقيق العدالة بين العاملين. ورغم الجدل الذي أثاره هذا الإجراء، فإن الواقع يفرض علينا الاعتراف بأهميته كأداة لضبط الالتزام الوظيفي، وإعادة الهيبة للمؤسسات الحكومية. لقد استند المتسيبون إلى محسوبيات من أقارب أو جماعات أو قبائل أو نواب خدمات يسهل لهم الوزراء وساطاتهم وتعدياتهم على القانون لتجنب الاستجوابات. ومع ذلك، يجب أن نؤكد ضرورة إيقاظ المجتمع من غفلته والمتسيب السادر في غيه، الذي أضر بالقيم المجتمعية، وأدى إلى استمراء التجاوز على القانون. لكن نجاح هذا النظام يتطلب تطبيقه بأسلوب مرن ومدروس يأخذ في الاعتبار طبيعة العمل بالقطاعات المختلفة، خصوصاً القطاع الصحي، الذي يحتاج إلى معالجة خصوصية بيئته العملية.
لا تحتاج الصحة في الكويت إلى سبعين ألف موظف يبصمون، بل ولا حتى إلى نصف هذا العدد. يعاني القطاع الصحي منذ سنوات طويلة مشكلات هيكلية عميقة، أبرزها التكدس الوظيفي، وغياب معايير مهنية وتنظيمية واضحة. أعداد الموظفين في هذا القطاع تفوق الاحتياجات الفعلية بأضعاف، مما أدى إلى شعور الكثير من العاملين بعدم أهمية دورهم، وساهم في انتشار ثقافة التسيب وفقدان الالتزام. وقد كشفت جائحة كورونا، بشكل واضح، أن العمل يمكن أن يستمر بكفاءة مع ربع العدد الحالي من العاملين في القطاع الصحي.
إن التكدس الوظيفي يخلق بيئة عمل غير محفزة، ويؤدي إلى البطالة المقنعة، حيث يفقد الموظف شعوره بأهمية دوره. كيف نتوقع التزام الطبيب الكويتي فيما يعلم أن غيابه سيعوضه أربعة أطباء آخرين؟ في المقابل، نجد الطبيب الكويتي في كندا ملتزماً، لأنه يدرك أن غيابه سيختل به جزء حيوي من المنظومة.
لمعالجة هذا الوضع، يجب البدء بخطوات جادة تشمل مراجعة دقيقة لاحتياجات كل قسم، وإعادة توزيع الكوادر وفقاً لمتطلبات العمل الفعلية. على سبيل المثال، لا يمكن أن يحتوي قسم جراحي على ثمانين جراحاً فيما الحاجة الفعلية لا تتجاوز عشرين. إعادة توزيع العاملين بشكل عادل، وفق حجم العمل وعدد المرضى، تضمن تحقيق الكفاءة والعدالة.
إلى جانب ذلك، يجب وضع مؤشرات أداء واضحة وشفافة لضمان الالتزام وتحسين الأداء. على سبيل المثال، يمكن قياس أداء الجراح بعدد العمليات التي يجريها شهرياً أو سنوياً، أو تقييم أداء الأطباء وفق عدد المرضى الذين يتابعونهم في الأجنحة والعيادات الخارجية. كما يمكن استخدام التكنولوجيا الحديثة لتتبع أداء العاملين وتوثيق جهودهم اليومية، مثل عدد المرضى الذين عاينوهم، والإجراءات التي أجروها، والتقارير التي أعدوها. هذا النظام الرقمي يتيح التقييم بناءً على الجهد الفعلي، بدلاً من الاعتماد على مجرَّد الحضور والانصراف.
باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، يمكن لرئيس الوزراء، مثلاً، متابعة جدول عمل وزير الصحة والوكلاء، بما يضمن التركيز على المشاريع الحيوية، وتعزيز الشفافية في الأداء. وبالمناسبة هذا يتم ببعض دول الخليج.
الإصلاح الحقيقي لا يمكن أن يتم دون قيادة واعية ومسؤولة. المسؤولون في وزارة الصحة والمؤسسات الصحية يتحمَّلون اليوم مسؤولية كبيرة لإعادة بناء النظام الصحي على أسس مهنية وتنظيمية حديثة.
الفرصة الآن مواتية أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً في العهد الجديد، لوضع رؤية استراتيجية شاملة لإصلاح النظام الصحي، تتضمَّن معايير مهنية عالية وآليات رقابة فعَّالة.
القيادة الواعية يجب أن تركز على تعزيز ثقافة الالتزام، ووضع سياسات تضمن عدالة التوزيع، وتوفر أدوات تقييم شفافة.
نظام البصمة، رغم أهميته، ليس الحل الوحيد لإصلاح النظام الإداري والصحي. الإصلاح الحقيقي يبدأ ببناء منظومة متكاملة تركز على جودة الأداء ومخرجات العمل، وتضع الموظف أمام مسؤولياته بوضوح. يجب أن تكون هناك خطة شاملة تعالج جذور المشكلة، وتضمن كفاءة التوزيع، وتستخدم أدوات رقابة متطورة لتحقيق الشفافية والعدالة. هذه الإجراءات هي السبيل لتحقيق التغيير الحقيقي الذي يتطلع إليه الجميع.
إن إصلاح النظام الإداري والصحي في الكويت ليس خياراً، بل ضرورة مُلحَّة لضمان استمرارية المؤسسات وكفاءتها. التحديات كبيرة، لكن الإرادة الصادقة قادرة على تحقيق التغيير.
المرحلة الحالية تمثل فرصة لا تُعوض لإعادة بناء نظام إداري وصحي يلبي تطلعات الكويت وشعبها، ويضمن تقديم خدمات بجودة عالية تليق بمستقبل البلاد.
إن شعار المرحلة يجب أن يكون «مؤشرات الأداء» تُطبَّق على الجميع، بدءاً من أعلى المستويات القيادية، وصولاً إلى أدنى السلم الوظيفي. بهذه الطريقة فقط، يمكن للكويت أن تبني نظاماً قوياً ومستداماً يُحقق العدالة، ويرفع كفاءة الأداء، ويُكرِّس ثقافة الالتزام.
وزير الصحة الأسبق