عادةً عندما تكون القبلة لكل شـيءٍ جميل فهذا يدل على مدى محبتك في قلوب الناس، فتهفو إليك عقولهم، وتُسـرُّ بك أفئدتهم، وتنهض وتتسابق نحوك خُطاهم، وهذا هو واقع المحبة لدولة الكويت العزيزة في قلب كل عربيٍّ ويمني، بل توَّج هذه المحبة فناننا الكبير أبوبكر سالم، الملقب بـ «أبو الغناء الخليجي»، أو «صوت الخليج الأثير»، أو «سفير الأغنية اليمنية»، أو «فنان القرن»، كما منحته جامعة الدول العربية عام 2002م، الذي حمل في قلبه عِشقاً كبيراً للكويت ليس بكونه وطنه الثاني، إنما قبلته التي يعشقها بين الحين والآخر، فلا يمضي عامٌ واحدٌ دونما حفلة فنية أو جلساتٍ غنائية فيها لتعد جزءاً لا يتجزأ من سني حياته، فأقام فيها أروع الحفلات بدءاً من عام 1963م حتى رحيله، وسجَّل فيها أجمل أغانيه، كما جمعته بزملائه الفنانين الكويتيين علاقة محبة وتقدير، نتج عنها أعمال فنية وموسيقية خالدة، تاركاً بذلك بصمةً لا تُـمحى في ذاكرة المستمع العربي، وبصماتٍ واضحة في تاريخ الأغنية الكويتية والخليجية، ليتميز بعدة صفات جعلته محبوب الجماهير الكويتية والخليجية والعربية، أبرزها كونه من الفنانين القلائل في الوطن العربي الذي نجح أن يكون مُغنياً وشاعراً وملحناً وموزعاً موسيقياً في آنٍ واحد، أي أنه فنانٌ شاملٌ في صناعة الأغنية من أركانها الثلاثة، ولامتلاكه حُنجرةً ذهبيةً جعلت من صوته أندر الأصوات في العالم، بل قدرته العجيبة على تغيير درجات صوته بشكلٍ موسيقي وكأنه آلة موسيقية رائعة.

وبعيداً عن وصفه، لا بُد لنا من سـرد حبَّه الكبير للكويت، ففي إحدى مقابلاته التلفزيونية يتذكر أول زيارةٍ له، واصفاً مدى انبهاره بمستوى الحركة الثقافية والإعلامية فيها، فيقول: «عندما زرت الكويت عام 1963م كان هناك نشاطٌ محسوسٌ وملموسٌ للأغنية الكويتية، ويعود ذلك إلى أن أول معهدٍ موسيقي في الجزيرة العربية كان في الكويت، كما أن أول فرقةٍ موسيقيةٍ كويتية كانت تضم فطاحل الموسيقيين: نجيب رزق الله، ورضا غنيم، وفطاحل الفنانين: عوض الدُّوخي، وسعود الراشد، حسين الجاسم... إلخ، وأن الحركة الفنية والإعلامية والمسـرحية الخليجية بدأت في الكويت، ولها باعها وذِراعها في احتضان الأغنية الخليجية ونموها وتطورها، ومن تلك الأيام الجميلة لن أنسى صديقي الفنان عبدالكريم عبدالقادر، أحد كبار الفنانين الكويتيين، صاحب الصوت الجميل، والصوت الحنون، والصوت الذي يُنقي أجمل الكلمات وأعذب الألحان، وكان حينها مُتسيدا الساحة الكويتية، وله محبوه على امتداد الساحة العربية».

بعدها توالت حفلاته في الكويت، وذهابه وإيابه إليها عندما كان يقيم في بيروت، والقاهرة، وجدة، ومشاركاته في حفلات «مهرجان هلا فبراير»، وتقديمه للعديد من الحفلات التي تتميز بطابعها القريب من قلوب مستمعيه ومحبيه، ليحق لنا القول بأنها علاقة عشق لا تنتهي، كونها ذات خصوصيةٍ فريدة تجاوزت حدود الفن لتصل إلى مستوى الحب والاحترام، فقد أحبه الكويتيون وأحبهم، وكانوا يتفاعلون مع حفلاته بحماسٍ منقطع النظير، وذلك لأن أغانيه بألحانها العذبة وكلماتها المُعبِّرة تُلامس قلوبهم، وتُلبي أذواقهم، وتُعبِّر عما يجيش بخواطرهم، ولم يتوقف الأمر هنا فحسب، بل إن فناننا بادل هذا الجمهور الحب والتقدير بإهدائه العديد من الأغاني للكويت، مثل أغنية (يا كويت) وهي أكثر من مجرد أغنية، بل هي تعبيرٌ صادقٌ عن عمق هذا الحب لهذه الدولة ولشعبها، لتصبح الأغنية رمزاً وطنياً للكويت، بل جزءاً من إرثه الفني والموسيقي، فتُغنى في أعياده ومناسباته الوطنية، كما أن إهداءه أيضاً لأغنيته (عيدي وتـمجيدي) التي عبَّرت عن هوية الكويتيين وولائهم لبلادهم، وعمت بالفرح والبهجة احتفالاتهم الوطنية.

Ad

وفي آخر أيامه غنَّى (شلني عالكويت)، مبتدئاً إياها بكلماتٍ دامعة: «إنني عاجزٌ عن التعبير لمكانة الكويت في قلبي، وما هو مستبعدٌ حُبنا لها، فعندما أزعل أجي للكويت، وفي فرحي أجي للكويت»، ثم صدح بهذه الأغنية التي تقول كلماتها: «الكويت عزي ومقداري منها ابتديت، فني دليلي والذوق عند أهلها والفن في كل بيت يشفي غليلي، مصون فيها خليلي، وبشعر فايق وبالربعي تباهيت... يا مودي الودائع، أسألك بالله شلني عالكويت»، وقد أطلق الإعلامي الكويتي بركات الوقيان عليها «الليلة التي بكى فيها أبوبكر تأثراً من وفاء الكويت وأهلها الذين وقفوا إجلالاً له عند إطلالته وغنَّوا معه، وتأثروا وهم يسمعونه يتغزَّل في بلادهم التي انطلق منها». وبادله الجمهور الكويتي أيضاً محبَّةً كبيرة، فها هو البروفيسور أحمد الربعي– أستاذ مادة الفلسفة بجامعة الكويت– يقول: «أبوبكر سالم ليس مجرد فنان فقط بل هو مثقفٌ عربي، وليس بالفنان العادي فكثيرون أعطاهم الله أصواتا جميلة ولكن قليلون من يستفيدون من هذه الميزة الإلهية، أما أبوبكر فهو يعرف كيف يختار الكلمة الجميلة، واللحن الجميل مع صوته الفريد، والمزج بين هذه العناصـر الثلاثة، وأعتقد أنه أكبر من مجرد فنان أو مطرب أو ملحن، فهو إنسانٌ أولاً وعنده إمكانات كبيرة تجعل منه علماً كبيراً من أعلام الثقافة والفن اليمني والخليجي». تلاه الملحن يوسف المهنا بالقول: «عندما أتى أبوبكر للكويت كان شاباً متدفقاً ومملوءا حماسةً وفناً راقياً، لأنه يغرف من تراث اليمن العريق، كما أنه ملحن ومطرب وشاعر ناجح، وهذا نادر الحدوث في منطقتنا العربية، ليعد علامةً فارقة من علامات الأغنية العربية».

أما الفنان عبدالكريم عبدالقادر فقال: «التميز والعطاء والاستمرارية تعني أبوبكر سالم، فهو فنانٌ بحجمٍ كبير، وصعبٌ علينا أن نتكلم أو نختزل تاريخه الطويل في بعض كلماتٍ أو جُمل، والحقيقة أحمل له كل التقدير، وتجمعني معه ذكريات عديدة، سواءً في المشاركات في الكويت أو البحرين أو في لقاءاتنا في القاهرة، أو أي مكانٍ يجمعني به، أحس أنني أمام فنانٍ عملاق لا أملك إلا احترامه، ويسعدني القول إنني تعلمت من أخلاقياته، وتعاملاته مع زملائه الفنانين ومع الفرقة الموسيقية، ولم أحس أبداً بالنظرة الفوقية، بل كان يتداخل معهم بكل حبٍّ وتقدير».

كما أن لتلميذه الفنان عبدالله الرويشد مقولة دائماً ما يرددها: «أعتبر أبوبكر هو الأب الروحي لي وقدوتي في المجال الفني»، ولنقيب الفنانين الكويتيين عبدالحسين عبدالرضا قولٌ: «إن الجميع تعلَّم من أبو أصيل لأنه فنانٌ من الطراز الأول»، وكان مسك الختام للفنانة سعاد العبدالله حيث قالت: «الفنان أبوبكر فنانٌ كبير وحسَّاس، فنانٌ بكل ما لهذه الكلمة من معنى، فهو يُمثل لوناً غنائياً خاصاً ومميزاً، لا يمكن أن يتَّصف فيه فنانٌ آخر، لأنه يعطي كل شـيءٍ حقه، من الأداء الصوتي أو التمثيلي لكل كلمةٍ من كلمات أغانيه، وهذا اللون تـميَّز وتفرَّد به في الساحة العربية، كما أنه إنسانٌ حسَّاسٌ إلى أبعد الحدود، وله اختياراته الرائعة، لدرجة أنه عند سماعه لبيتٍ شعري، أو جملةٍ موسيقية يتأثر لدرجة البكاء، وأنا شاهدة عن قرب، أما عندما يكتب شعراً فهو يكتب كلاماً في قمة الروعة، ولعل من أبرز قصائده والمحببة إليَّ شخصياً قصيدته (ما يحتاج يا عيسى) التي أعتقد أنها من أجمل كلماته الشاعرية والحسَّاسة».

وهذه الشذرات الجميلة التي تعد غيضاً من فيض محبة الجمهور الكويتي للفنان أبوبكر سالم، والذي نعاه بعد وفاته في إحدى الصحف بقولهم: «بقلوبٍ حزنى نعزي أنفسنا بوفاة فقيد الفن الكبير أبوبكر سالم بلفقيه، الفنان المرهف الذي شـرّع نوافذ أرواحنا للحياة، عشق الكويت فبادلته وأهلها المحبة والتقدير لينطلق منها بصوته الاستثنائي للعالم، اللهم ألهمنا وذويه ومحبيه الصبر والسلوان على غيابه جسداً وخلوده في خواطرنا ما حيينا»، (محبوه في الكويت)، وهنا سكت الكلام، وبلغت المحبة أعظمها لفنانٍ خالد، من جمهورٍ وفيٍّ وكريم.

* كاتب وباحث من اليمن