تتصدر عناوين الأخبار الاقتصادية العالمية هذه الأيام أزمة شركة نيسان اليابانية للسيارات التي تقاوم ضغوط الإفلاس، من خلال اتخاذ إجراءات تقشفية سريعة، كخفض تكاليف العمالة والإنتاج وتقليص الخسائر المتراكمة، الى جانب العمل على خطة استراتيجية تتمثل في تحالف «نيسان» مع شركتين يابانيتين أخريين لتأسيس شركة قابضة؛ هما «ميستوبيشي» التي تمتلك «نيسان» بالأصل حصة 34 بالمئة منها، إضافة إلى عملاق السيارات الياباني «هوندا»، في مسعى لا يتوقف عند إنقاذ «نيسان» فقط، بل يتجاوزه الى محاولة تطويع المنافسة الصعبة التي تواجه سوق السيارات اليابانية، لا سيما من نظيرتها الصينية الأرخص سعرا والأكثر تماهيا مع المتطلبات البيئية.
ليست الأولى
وهذه ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها «نيسان» لأزمة عاصفة تهدد وجودها، ففي عام 1999 واجهت الشركة اليابانية حالة انهيار وشيكة تمثّلت في تصاعد الديون الى أكثر من 22 مليار دولار وتدني الإنتاج بـ 30 بالمئة، وارتفاع المصروفات غير الضرورية، وتراجع القدرة على الابتكار، قبل أن تستعين بخبرات منقذها كارلوس غصن - الذي سُجن لاحقا بقضايا فساد - وتعود من جديد عبر التحالف مع «رينو» الفرنسية، لتأخذ مكانتها مجددا في سوق السيارات العالمي.
إصلاح وأبحاث
ويمكن تلخيص أزمة «نيسان» في نقطتين أساسيتين هما: الأولى، عدم جدية خطط الإصلاح المالي، والثانية إهمال أبحاث السوق واستطلاعات خيارات المستهلكين.
ففي الأولى تراكمت الديون على الشركة لسنوات متتالية، من دون أن تتخذ إجراءات دفاعية تعطيها قدرا أكبر من المرونة في مواجهة صعوبات الأسواق، حيث أجّلت استحقاقاتها للسداد الى العام المقبل، بواقع 1.6 مليار دولار، وعام 2026 بواقع 5.6 مليارات دولار، في وقت تتصاعد تكاليف الإنتاج، لاسيما العمالة والمواد الأولية وضعف إدارة المخزون، فضلا عن تعثّر الوصول الى مستهدفات المبيعات بيع نحو 4.2 ملايين مركبة سنويا، وإنتاج ما يقل عنها بمليون سيارة، وخفض الربح التشغيلي خلال العام المالي الحالي بمقدار الثلثين إلى 975 مليون دولار، وهذه المرة الثانية خلال هذا العام التي تُخفض فيها «نيسان» توقعات الأرباح السنوية، في الوقت الذي تسعى «نيسان» لبيع ما يعادل 10 بالمئة من أسهم «ميتسوبيشي موتورز»، لتخفض إجمالي حيازتها من أسهم الشركة إلى 24 بالمئة، في مسعى لتوفير بعض السيولة بمالية العملاق الياباني المتعثر.
وفي التصنيفات الائتمانية، حصلت سندات «نيسان» على أقل درجة استثمارية من «موديز» و»فيتش»، فيما صنفتها وكالة إس آند بي من درجة «BB+» دون الاستثمارية، كما صنفتها وكالتا التصنيف الائتماني اليابانيتان «ريتينغز آند إنفستمنت» و»جابان كريديت ريتينغ إيجينسي» كسادس مستوى من التصنيف.
صينية وكهربائية
أما الثانية، فتتعلق بإهمال أبحاث السوق الذي تحولت اتجاهاته بشكل كبير، لا سيما في قطاع منافسة السيارات الصينية وفئاتها الكهربائية التي تمكنت من غزو الأسواق الآسيوية والأميركية أيضا، فصحيح أن «نيسان» أطلقت عام 2020 سيارتها الكهربائية «ليف» (Leaf)، إلا أنها لم تتمكن من المنافسة، رغم بدايتها القوية مقابل توسّع انتشار السيارات الكهربائية الصينية ومنافستها داخل الأسواق اليابانية، وهو ما قلّص من حصص سيارات الكهرباء والمهجنة اليابانية الصنع بما فيها «نيسان» و»هوندا» و»تويوتا» داخل سوقها المحلي، إذ لا تتجاوز حصصهم داخل السوق الياباني أكثر من 2.2 بالمئة من إجمالي سوق سيارات الكهرباء والمهجّنة، مما يشير الى أن عمالقة صناعة السيارات في اليابان أهملوا الى حد كبير أبحاث السوق وتحولات المستهلكين.
نمو لافت
وحسب بيانات وكالة الطاقة، فقد شهد العقد الأخير نموا لافتا في صناعة السيارات الكهربائية، إذ ارتفعت مبيعاتها من 206 آلاف سيارة عام 2013 بحصّة لا تتجاوز 0.2 في المئة من إجمالي سوق السيارات العالمي إلى 17 مليون سيارة في نهاية عام 2024، بما يوازي 20 بالمئة من إجمالي السوق، أي أن النمو في سوق السيارات الكهربائية خلال 11 سنة تجاوز 84 ضعفا، وسط توقعات إيجابية كأن تقفز مبيعات السيارات الكهربائية في الصين إلى نحو 10 ملايين سيارة، ما يمثّل 45 بالمئة من إجمالي مبيعات السيارات بالبلاد، أما في الولايات المتحدة، فمن المتوقع أن تكون سيارة واحدة من بين كل 9 سيارات مباعة كهربائية، بينما في أوروبا ستكون السيارات الكهربائية تمثّل نحو واحد من بين 4 سيارات مباعة.
شركة ودولة
ومع الاعتراف بصعوبة قياس حالة أي شركة في العالم على الدول لاختلاف النماذج والأهداف، إلا أنّ في قصة «نيسان» ما يمكن مقاربته مع حالة الكويت، خصوصا من مسألتي إهمال الإصلاح المالي وعدم التعامل بحصافة مع تحولات الأسواق ومخاطر المستقبل، فالكويت أيضا أهملت العديد من فرص الإصلاح المالي على عقود طويلة، صحيح أنها لم تقف على حافة الإفلاس، كما «نيسان»، إلّا أنها تعرضت لأزمات مالية خانقة بسبب تراجع أسعار النفط، حدث ذلك في منتصف ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي وما بعد 2014، وصولا الى شبه انعدام الطلب العالمي على الطاقة خلال أزمة جائحة كورونا، وجميع هذه الأزمات لم تنعكس دروسا لصناع السياسة العامة في التعامل مع إيرادات الدولة، سواء إن حققت فوائض أو عجوزات مليارية، إلّا أنه في كل مرة تتراجع فيها مرونة الإدارة المالية في التعامل مع الموقف المستجد.
وحتى في الموقف من أبحاث السوق واستطلاع خيارات المستهلكين، فالكويت اليوم تشبه «نيسان» في ضعف قراءة تحولات الأسواق ومخاطر المستقبل.
قرب المقارنة
وهنا تكون مسألة المقارنة أكثر اقترابا، لكون المسألة تتعلق بتطورات الطاقة النظيفة والتوسع في المنتجات البيئة والتأثير على الطلب العالمي من النفط، في ظل عالم يتوقع تراجع نمو الطلب على الطاقة خلال السنوات القادمة بشكل عام، وارتفاع الإنتاج من خلال مجموعة أوبك بلس خلال الأشهر القادمة، فضلا عن سياسات الرئيس الأميركي العائد دونالد ترامب في دعم أنشطة الحفر في الولايات المتحدة، إضافة إلى خطوات الدعم الصريحة للسيارات الكهربائية والطاقة المتجددة، لا سيما في الاتحاد الأوروبي، وكل هذا يحدث مع تعاظم اعتماد الكويت على إيرادات النفط بنسبة تناهز 92 بالمئة من الإيرادات العامة، مما يجعلنا وفق هذه النسبة الأكثر عالميا عرضة للتأثر أو الانكشاف على تقلبات سوق النفط.
بلا حد أدنى
لا أحد يتمنّى أن تعاني الكويت يوما ما تعانيه «نيسان» حاليا من أوضاع مالية صعبة تتخللها استغناءات عن شريحة مهمة من عمالتها، أو أن تتعثّر في تسديد التزاماتها أو ديونها، أو أن تضطر لبيع أصولها، فضلا عن تدهور تصنيفاتها الائتمانية، فالدول ليست شركات، لكن لا بأس من تعلّم الدروس والتجارب، والعمل على تلافي ما يبدو واضحا وصريحا من مخاطر، لا سيما في مجال التوسع غير الحصيف في نطاق الإنفاق المالي، والاعتماد المبالغ فيه على سلعة غير مستدامة.
وتعلّم الدروس هنا يتطلب الكثير من الجدية والجهد وجودة الإدارة، وهي كلها - حسب التجارب السابقة - شبه مفقودة، فكيف نتوقع وجودها في ظل عدم صدور الحد الأدنى منها، وهو وجود برنامج عمل حكومي منذ تشكيل الحكومة قبل 7 أشهر؟!