هناك مدن تسكنها وأخرى تسكنك، ربما لأنك عايشتها كما يعايش البشر البشر وحتى أحيانا الحجر، دخلتها وأنت لا تنبش الماضي فقط، بل للاطمئنان على كل زاوية فيها وأنت تدرك ألا حجر فوق حجر في كثير من المناطق، وأن تفاصيل بشرها اختلفت ربما لأن الموت صار رقما سهلا لا صعبا، وتنقّل بين الأعمار والأجناس والأديان ربما!
بعد أيام وقد تفقدت أصدقاءك وكثيرا من تفاصيل الشوارع البعيدة عن نقطة الاستهداف، تأخذك قدماك الى هناك إلى خاصرتها الجنوبية، حيث تبدو غزة بل كل فلسطين الأكثر قربا من الأحياء المحيطة، تندهش للازدحام رغم أنهم قالوا لك إن الحياة هناك عادت بكثير من الوجع وإنهم، أي سكانها أو ما تبقى منهم، عادوا ليلملموا الأشلاء والذكريات، تصدمك المشاهد فتوقف العربة وتنزل لتتحسس الأحبة وهم كانوا كثيرا من المارة والواقفين على تفاصيل الموت المعلن، بل هو مجزرة الإبادة، بعض زخات من المطر وسماء تغطيها الغيوم تزيد المشهد رهبة، فتبدأ رحلة النزول بين ما تبقى من مساكن كانت لعائلات قد لا نعرفها لكنها شبيهة بنا حدّ التلاصق، فجأة توقفك امرأة تقول لك بكثير من الود والهدوء «حاسبي الفرش وأنت نازلة».
بضع دقائق هي لتستوعبي أنك تمشين فوق فراش كان لامرأة أو طفل أو صبي، وهنا حذاء رجل وهناك لعبة وجهاز كمبيوتر، وكتب كثيرة هنا وهناك وصور وستائر، وكل التفاصيل لكل منزل هنا تحولت إلى أنقاض، لكنها ليست كذلك بالمعنى الحرفي لها، بل هي تفاصيل حيوات لبشر، زوج وزوجة وأطفال أو ربما جدة في مطبخها تجهز محشي ورق عنب أو فريكة باللحمة، وعيناك تراقبان ولا تستطيعان تخزين كل المشاهد بتفاصيلها تصدمك الوحشية، بشعة وحشيتهم لم تمر بأي عصر كان، ويصدمك حجم الصمت الخارج من هنا.
تحاول أخذ نفس عميق فيحذرك شاب أنيق جدا مثلك أخذته قدماه إلى هنا ليودع الأحبة أو ربما يقرأ الفاتحة على أرواحهم، «البسوا الكمامات ففي الأسفل رائحة قوية»، لا تعرفون أنت وغيرك ماذا تفعلون غير أن تستمروا في السير محاولين تفادي المشي فوق بقايا تفاصيل الحياة التي كانت هنا.
بعد فترة بدت ممتدة لسنوات طويلة رغم قصرها تمضين في النبش بين الأبنية المنهارة وزحمة المارة ماشين على الأقدام أو مرتجلين سياراتهم أو دراجاتهم النارية، تفاجئك مظاهر الحياة الملاصقة للموت، بين عمارة بل مربع عمارات سوي بالأرض وآخر محل بقالة وآخر لبيع الخضار أو لحام تتدلى الذبائح من خلف زجاجاته، ولكن أكثر ما يذهل هو محلات الكماليات والألبسة وخاصة ملابس الأفراح للنساء أي ملابس السهرة، نعم فساتين طويلة للأفراح هكذا تصفها اليافطات على فتريناتها «أي أفراح هنا ولا تزال الجرافات تنبش الجثث ولا يزال الكثير منها تحت الأنقاض أو لا أثر له؟ أي أفراح وأعراس واللافتات الأكثر انتشارا هي لصور الشهداء واحدة تحمل صورتين لفتى في العشرينيات وآخر في الخمسينيات وتحمل اسميهما وتحتهما «الأب الشهيد وابنه الشهيد» بعد كل كلمة شهيد كتب «السعيد» أي أنه سعيد بنيل الشهادة، وهذا أمر لا يفهمه الكثيرون؟ ألم نلتفت لتلك العبارة التي توسطت جدار بيت أو ما تبقى منه وعليها «المقاومة أعلى درجات الحب»!!! ورشة هنا وهناك رفع أنقاض وبعض طلق رصاص في الهواء ابتهاجا بالوصول إلى جثة لشهيد آخر، قافلة الشهداء أطول من مسابقات وحفلات ملكات الجمال في بعض العواصم هنا وهناك!!!».
وفي حين تندهش وتحزن من حجم الدمار ورائحة الموت، يذهلك كم البشر المستمرين في ممارسة طقوس حياتهم اليومية بشرب قهوة على بقايا مدخل لبيت أو أكلة منقوشة زعتر «على الماشي» وعيون مغمسة بالحزن حتما لكنها ماضية في الاستعداد ليوم آخر وأسبوع آخر وخبر آخر وسنة جديدة تأتيهم موسيقاها الصاخبة من أحياء قريبة، ويبقون هم يتطلعون للقادم، وهم يقولون هذه ليست المرة الأولى، كم حرب مرت من هنا إلا أنها الآن حرب إبادة تحت أنظار وأسماع العالم، ورغم ذلك في نفس تلك العيون نظرة تحدّ وأمل في القادم.
كل سنة وأنتم بخير لأنكم تعرفون كيف تصنعونه كما قال ابن باديس «ما رأينا التاريخ يسجل بين دفتي حوادثه خيبة للمجاهد، إنما رأيناه يسجل خيبة المستجدي، الحرية لا تعطى ولا توهب بل سجّل التاريخ أنها تؤخذ وتنتزع».