لطالما مثّلت سورية، البلد العربي العريق، روح العروبة النابضة بالحضارة والتاريخ المرتبط بجغرافية غنية وموقع استراتيجي مهم، فقلب بلاد الشام بعراقتها الضاربة في جذور الإنسانية، ينبض بإرث حضاري مميّز يمتد الى عمق التاريخ، حيث شكّلت دمشق أقدم عاصمة مأهولة، وكانت مركز إشعاع حضاري وثقافي، وموطنًا للتنوع والتعايش عبر العصور، وانطلقت من حاضرتها الدولة الأموية لتوسيع نفوذها على مساحة ثلاث قارات، هذا الإرث العظيم شكل الحجر الأساس لهوية سورية العربية ودورها المحوري في تاريخ المنطقة والعالم الإسلامي.

وللأسف عانت سورية، لأكثر من نصف قرن، من حكم أسرة الأسد التي فرضت سيطرتها بالنار والحديد لاعتبارات وشعارات روّجها النظام السوري دون أن يقتنع بها حتى الذين تبنوها ودافعوا عنها رياءً لعقود طويلة، الأمر الذي حوّل شام العراقة الى مقبرة للحرية والكرامة الإنسانية، وجعل اندحار النظام الأسدي بالنسبة إلى غالبية السوريين والعرب متنفساً أثلج صدورهم وأزاح العبء الثقيل عن كواهلهم.

Ad

الا أن الفرحة المشروعة تبقى محفوفة بالحذر، حيث لم يشكل هروب الأسد الابن مجرد انقلاب في المشهد السوري بل نقطة تحول جذرية في منطقة الشرق الأوسط ككل، فهذا السقوط المدوّي لا يعني وضع حدّ لعقود من الاستبداد أصيبت خلالها الوحدة الوطنية بشروخ واسعة خلقت حالة من الاستقطاب الحاد فقط، بل شكّل بلا شكّ الحدث الأكثر تأثيراً على التوازنات الإقليمية التي تتشابك فيها المصالح المحلية والدولية.

لا جدال في أن من أهم التأثيرات الإيجابية لإزاحة نظام الأسد هو فتح الأفق أمام الشعب السوري المثقف والراقي للتنفس بحرية في ظل نظام ديموقراطي جديد، فهذا الشعب الذي عُرف بإسهاماته الكبيرة في الفكر والثقافة والعلم، والذي ظل مكبلًا لعقود تحت وطأة القمع والاستبداد، لديه الآن فرصة تاريخية لاستعادة حرياته السياسية وبناء مؤسساته على أسس ديموقراطية تعترف بحقوق الإنسان وتصون كرامته، كما أن التحول إلى الديموقراطية سيخلق بيئة مواتية لنمو اقتصادي يعيد للبلاد مكانتها كمركز حضاري وتجاري في المنطقة.

وهنا تلحّ التساؤلات المحورية: هل سيترك الشعب السوري ليحدد مصيره بهدوء وسلام دون تدخلات اقليمية ودولية؟ وهل سيكون العدو الإسرائيلي سعيداً وصامتاً حيال هذا التحوّل الإيجابي المرتقب؟ وهل ستسمح تركيا بأن يفلت من يدها الحكم في سورية من جديد؟ وهل ستسكت ايران وحلفاؤها عن خسارة صعبة وقاسية؟

***

على المستوى الدولي والإقليمي، لا شكّ أن خروج النظام الأسدي من المشهد سيُؤثر بقوة على النفوذ الروسي الذي اعتمد بشكل كبير على وجوده في المياه الدافئة عبر القواعد العسكرية في سورية، حيث استفادت موسكو لعقود من تأثيرها في الحكم السوري لممارسة الدور والمناورة في الشرق الأوسط والعالم بمواجهة الغرب وحلف الناتو، وقد بدا في هذا الإطار أن تخليّها عن حليفها الأسدي كان مقابل مكاسب استراتيجية أخرى ستجنيها في الملف الأوكراني، وهنا تتجلّى بشكل واضح التأثيرات المرتقبة للتغيير في سورية على إعادة تشكيل العلاقات الدولية وعلى رقعة النفوذ والتمدد الغربي والروسي في المناطق الاستراتيجية والبقع الساخنة في الكرة الأرضية.

في السياق ذاته، فإن انهيار نظام الأسد أدّى بلا شكّ الى إضعاف ما يُسمى محور المقاومة، الذي يضم إيران وحزب الله وغيرهما من القوى التي تناوبت مع هذا نظام على تقديم الدعم المتبادل. هذا المحور الذي شكّلت دمشق وسط العقد فيه وجد نفسه في حالة ارتباك بعد خسارته لسورية كقاعدة استراتيجية، وهذا بلا شك ما فتح شهية العدو الإسرائيلي، الذي لم يكن يخشى يوماً منطق «الرد المناسب في الزمان المناسب»، على احتلاله المزيد من الأراضي السورية وتوسيع رقعة سيطرته على مرتفعات استراتيجية جديدة في هضبة الجولان، وضرب ما تبقى من القوة العسكرية السورية كخطوة استباقية وكرسالة واضحة لأي نظام جديد سيحكم هذا البلد الذي أصبح منهكاً.

***اليوم التالي لسقوط الأسد ما زال غامض المآلات، وسورية ووجهتها العربية أمام مشهد معقد وتحديات كبرى، حيث يبدو الى الآن أن هناك اتجاهاً لاستبدال النفوذ الإيراني بنفوذ تركي، وبصرف النظر عن هوية «الإسلام السياسي» لتركيا التي قد تخفف من وطأة الصدام مع محيط سورية العربي والإسلامي، فإن منطق العلاقات الدولية يشي بأن النظام التركي، كما أي نظام آخر، لديه مصالحه وأطماعه وأهدافه الاستراتيجية، مما قد يخشى معه لاحقاً أن يكون سبباً لإبعاد سورية عن وجهها العربي أو جعلها ساحة جديدة لتصارع المحاور والدول والمصالح، أو أن تبرز فيها أنياب التقاتل الطائفي أو المذهبي، دون أن ننسى التنافر في اتجاهات «الإسلام السياسي» الذي تجتمع تحت عنوانه كل أنواع الصراعات التاريخية والمعاصرة على كل المستويات الشعبية، والإقليمية والدولية.

***

أحد أهم وأصعب الأولويات التي ستواجه السلطة الجديدة في سورية وتشكل خطوة حاسمة نحو بناء نظام سياسي مستقر وعادل، وضع دستور جديد يعكس تطلعات الشعب السوري بكل أطيافه، ولعل من أبرز ما يجب أن يحرص عليه الدستور الجديد هو ايجاد حالة توازن ثابتة بين الحفاظ على الهوية العربية للبلد وضمان حقوق جميع الطوائف والاتجاهات السياسية من جهة، والمحافظة من جهة أخرى على السيادة الوطنية في جو من التجاذبات الإقليمية والدولية المتضادة.

التحديات الأخرى تشمل بناء نظام سياسي يضمن التعددية ويُشرك مكونات المجتمع كافة مع ضرورة الحرص على وجود ضمانات حقيقية لعدم العودة إلى الحكم الاستبدادي بأي شكل من الأشكال، الأمر الذي يضاف الى جهود إعادة بناء الدولة ومؤسساتها بعد سنوات من الدمار والحرب، وهذه مناسبة للتأكيد أن إعادة الإعمار لن تكون فقط عملية مادية بل أيضًا عملية اجتماعية تهدف إلى ترميم النسيج الوطني الذي تمزّق بفعل الاستبداد والصراعات المتنوعة الأشكال والغايات.

***

في النهاية، سورية التي نطمح إليها- كما كل الشعب السوري والعربي- هي سورية حرة، عربية الهوية والانتماء الإسلامي المعتدل، مما يجعلها نموذجًا للعدالة والديموقراطية في المنطقة.

وهنا يبقى السؤال الأهم مطروحاً: هل ستتمكن القوى السورية من تجاوز خلافاتها والعمل معًا لبناء دولة تليق بتاريخ هذا البلد العريق؟ وهل سيمكّن الحس الوطني الحكام الجدد من التخلص بسهولة من أي نفوذ أجنبي لصالح وحدة الشعب السوري وتعزيز هويته العربية والإسلامية الجامعة؟ الإجابة عن هذين السؤالين ستحدد مصير سورية والمنطقة في المرحلة الحسّاسة القادمة.

* كاتب ومستشار قانوني