كنت معتقداً أن ثقافة نبذ الواسطة يمكنها أن تترسخ بين أفراد الأسرة ثم تنتقل إلى المدرسة ومنها إلى دائرة العمل لتتسع بين أفراد المجتمع، لولا أنني تذكرت ثقافتنا الاجتماعية التي تقول «لو حبتك عيني ما ضامك الدهر»، الأمر الذي ساهم في انتشار النفاق الاجتماعي، ومن ثم الإداري أو المهني ومسح الجوخ للحصول على رضا «المعزب» بأي طريقة، ثم ترسخت ثقافتنا الاجتماعية بمثل آخر يقول «من صادها عشى عياله»، لتترسخ في سلوكياتنا مبدأ «المخامط»، الذي يعني باللغة العربية البسيطة «النهب والسلب»، فما استولى عليه هذا الصياد بـ«المخامط» هو ملك لغيره، حتى وصل سكين (المخامط والسلب والنهب)، وهي في حقيقة الأمر سكين الواسطة إلى عظم الأساسات الإدارية والاقتصادية.
وإذا كانت بعض القوانين تتضمن مادة تنص على أنه يحق للوزير أن يستثني بعض الحالات من الشروط الواردة في القانون، فاعلم أن مثل هذه المواد شرارة الحريق في سقف الديرة، وبداية لانتشار سرطان الواسطة في الجسد الإداري والمالي للدولة، ولو بحثت في كل حالة من حالات الفساد التي تناولتها وسائل الإعلام لوجدت أن مفتاح مغارة الفساد هو الواسطة، لنتأكد من حقيقة واحدة مفادها أن كل مصائبنا الإدارية والمالية والاجتماعية وحتى ثقافتنا العامة علتها الواسطة ولا شيء غير هذا الوباء، فلولا الواسطة لما عرفنا التعيينات الباراشوتية ولا تعلمنا الاستيلاء على المزارع والجواخير والشاليهات، ولا تخطينا حقوق الآخرين في الحصول على البيوت الحكومية ولا المعاشات الاستثنائية ولا التزوير ولا الازدواجية ولا غيرها من أعمال الفساد التي تكاثرت في مجتمعنا بسبب الواسطة.
أنا شخصياً لا أحب الواسطة، لأنني لست فوق القانون، ولأنها تقتل إنسانيتي المتوافقة مع العدالة والمساواة، فالواسطة ترفع الأنا العليا في شخصية الباحث عن الواسطة لتحسسه وكأنه فوق الآخرين، وتشعره بلذة الاستيلاء على حقوقهم، والغريب أن الباحثين عن الواسطة هم أنفسهم الذين ينادون بتطبيق القوانين على الآخرين من المخالفين، فخلال عملي المصرفي الذي تخلله العمل ككاتب زاوية يومية في الصحافة توثقت معرفتي بعدد من الوكلاء المساعدين لشؤون المرور، منهم الراحل الفريق متفاعد عبدالحميد حجي عبدالرحيم والفريق متقاعد مصطفى الزعابي والفريق متقاعد عبدالله مهنا والفريق متقاعد ثابت مهنا، ورغم ذلك لم أطلب من أي واحد منهم مساعدتي في إنجاز أي معاملة أو تحقيق أي واسطة طوال وجودهم في مناصبهم، بل إنني طلبت من بعضهم طردي من مكتبهم إذا طلبت إنجاز معاملة فيها تجاوز للقانون أو للآخرين من المراجعين، وقدمت خدمات «إعلامية الطابع» بالمجان للإدارة العامة للمرور يعرفها الفريق متقاعد عبدالله المهنا يتعلق بتعديل واختصار عبارات إرشادية مستخدمة على اللوحات الإلكترونية على الطرقات باللغتين العربية والإنكليزية، لخدمة بلدي.
ويبدو أن جينات كراهية الواسطة قد انتقلت إلى الأبناء، فأحدهم، وهو طبيب لا يعترف بالواسطة حتى لو تعلقت بمساعدة يحتاجها والده، قبل أكثر من تسع سنوات تقدمت من قسم الطب النووي في مستشفى مبارك لتحديد موعد لإجراء اختبار الجهد لاستكمال فحوصات القلب، وقبل أن أسلم أوراقي لموظفة الاستقبال لتحديد الموعد أخبرتني بأن أقرب موعد سيكون بعد خمسة أشهر، فأخبرتها بموافقتي وأنا أسلمها أوراقي، ولكن ما إن قرأت الاسم حتى سألتني عن صلة قرابتي بالدكتور فلان، فأخبرتها أنه ابني، فبادرتني بالقول (ولم لا يتوسط لك في تقريب الموعد؟)، فأخبرتها بأنه لن يرضى بكسر القانون على حساب الآخرين من المرضى، وطلبت منها أن تحدد الموعد المناسب، وفجأة إذا بولدي الطبيب يقف خلفي وهو يقول لموظفة الاستقبال وبأدب جم: لو سمحت... نفذي ما يقوله والدي حتى لو كان الموعد بعد أكثر من خمسة أشهر.