في 18 ديسمبر من كل عام تقرر الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية تخليداً للتاريخ الذي أصدرت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة، عام 1973، قرارها رقم 3190 الذي أقر إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة.

وبالمناسبة ينتابني شعوران متناقضان: واحد يهتز له وجداني افتخاراً واعتزازاً بانتمائي إلى أمّة خصّها الله بلغة حيّة وغنية ومباركة كونها لغة أهل الجنّة، وآخر يتملكني حزناً وقلقاً على ما آلت اليه أوضاع لغتنا ومجتمعاتنا من ترهّل ووهن وتخبّط بين التمسك بأمجاد الماضي وضرورة مجاراة متطلبات العصر.

Ad

***

في معرض شرحي لمفهوم «التأميم» في محاضرة أكاديمية، ذكرت كمثال على ذلك قيام جمال عبدالناصر- الرئيس المصري والزعيم العربي- بالإعلان عن تأميم قناة السويس من ميدان المنشيّة في الإسكندرية في عام 1956، وقد دخلت المحاضرة متوقّعاً أن تكون كلمة «التأميم» غريبة على مسامع الكثيرين من جيل الشباب، إلا أني فوجئت- وهذه حقيقة صادمة- بجهل جزء ملحوظ منهم بالشخصية التي ذكرتها!

وبعد عودتي الى مكتبي الخاص، وقع ناظري على وثيقة- كنت قد أجّلت قراءتها لعدم التفرغ- سمّيت «وثيقة بيروت للعام 2012» وعنوانها «اللغة العربية في خطر: الجميع شركاء في حمايتها»، وهي إحدى منشورات «المجلس الدولي للغة العربية»، وهذا ما فتح في وجداني جروح الكثير من الهموم والشجون المرتبطة ليس بلغتنا الأم فقط بل بالكم الكبير من المخاطر التي تهزّ أواصر مجتمعاتنا وتهدد كيانه وثوابته.

الواقع أن اللغة العربية لا تسبح في المنظومة التعليمية والمجتمعية بمفردها، بل هي- رغم أهميتها المعروفة- تشكّل أحد مكونات المجموعة القيمية التي يفقدها مجتمعنا تدريجياً مستغنياً عن أصالتها وهادماً آخر مداميك ركائزها، فالتعليم برمته في خطر، وقيمنا الدينية في مهبّ الريح، والثقافة مفقودة، والأسر مفككة، ونزعة العنف متفشية، والفساد متجذر، ونزعة الانتماء لغير ثقافات هي السائدة لدى شبابنا... واختصار كل ما سبق في أن السلوكيات الفردية والمجتمعية تبتعد أكثر من أي وقت مضى عن تكويننا المجتمعي بما يتضمنه من غزير وجدانية وجزيل إنسانية ومخزون كبير من الحضارة والتراث والقيم والأخلاق.

كيف لأي شعب أن يستمرّ بالتباهي في أصالته إذا ما فقد لغته؟! وكيف لأي مجتمع أن يراهن على إنجازات مأمولة إذا ما ترك شبابه تائهاً في بحر عولمة لا يأخذ منها إلا سلبياتها؟! وكيف لأي وطن أن يطمئن على مستقبل أجياله إذا اعتمد بشكل كلّي على قيم مستحدثة لا تشبهه وعلى منتوجات مستوردة لا تكفيه ولا تغنيه؟! وكيف لأي حاضر أن يراهن على مستقبل لا يعرف المحسوبون عليه ماضي أسلافهم وتاريخ أمجادهم؟!

الواقع أن هذه الاستفهامات الكيانية، لا تطول انعكاساتها مجتمعنا العربي فقط، بل هي أسئلة محورية في كثير من مجتمعات العالم، فعندما فتح الغرب حدوده- باسم حقوق الإنسان- للمهاجرين والفارين من جهات الشرق والجنوب تبدّلت ملامحه وتغيرت قيمه وأصبح قاب قوسين أو أدنى من التفكك المجتمعي أو الانجراف أكثر نحو اليمينية المتطرفة والعنصرية القاتلة، وفي المقابل، عندما اجتاحت الثقافة الغربية، الأميركية بشكل عام، شعوب الأرض- بما فيها الشعوب العربية- تغيّرت المجتمعات وتشوّهت الثقافات وأصبحنا نعيش بين نقيضين: واحد يدفعنا نحو التمسّك بأمجاد الأسلاف وآخر ينحو بنا للانجراف وربما الإسفاف.

أول دلائل صدق ما سبق هي النسبة المتدنية لمن يقرأ هذه السطور، وثاني دلائل صوابيته أن البعض- وربما الكثير- من القراء تنتابهم مشاعر الإحباط والاستسلام ويتبادر الى أذهانهم الاستفهام: كيف للعين أن تقاوم المخرز؟ وكيف للشواطئ أن تجابه المد؟ وثالثة الحقائق هي اتهام صاحب السطور بالرجعية والتخلف من بعض المنجرفين في تيارات فكرية أو نزعات سلوكية أو قناعات مجتمعية لا تشبه الملامح الرئيسة لمحيطنا الشرقي، العربي والإسلامي.

***لبّ المسألة يكمن في الموازنة الدقيقة بين القوقعة الانعزالية من جهة والانفتاح غير المنضبط من جهة أخرى، فلا أحد ينكر أهمية تبادل الثقافات واختلاط الحضارات، ولكن الاعتدال في كل ذلك هو السبيل للخلاص من كل الآفات التي فرضتها العولمة في أرجاء العالم كافة.

لا يجوز- تحت أي ذريعة اقتصادية أو عملية- أن يؤدي استخدامنا للغات العولمة إلى الاستغناء عن لغة أسلافنا المرتبطة بموروثاتنا الدينية والثقافية والحضارية، ولا يصلح بأي حال من الأحوال أن تتنكر مجتمعاتنا لأصالتها وتنجرف بلا هوادة في تيار القيم المستوردة، كما لا يستقيم أن نستلهم ممارساتنا من «السينما» التي لا تشبه يومياتنا، ولا أن ينحصر مصدر ثقافتنا بعشوائية «اليوتيوب»، ولا أن تصبح ديوانيتنا «تويترية»، ولا أن تمارس السياسة- موالاة ومعارضة- من خلال حسابات «إلكترونية» وهمية، وفي المقابل لا يجوز أن تبقى انتخاباتنا صورة عاكسة لنزعتنا القبلية ونزعاتنا الفئوية، ولا أن نحصر أو نشوه ديننا بالمظهر لا الجوهر، ولا أن نبقى أسرى أمجاد الأجداد دون العمل للأبناء والأحفاد!

***

وكما خلصت «وثيقة بيروت» بالنسبة إلى هموم اللغة العربية، نخلص للقول إن المحافظة على توازن مجتمعاتنا تحت سقف المعادلة بين الانفتاح والانغلاق يوجب إعادة النظر- بمسؤولية وموضوعية وشفافية ومصداقية عالية- في حقيقة مجتمعاتنا وقضاياه الحساسة والوجودية بما فيها قضية اللغة العربية، وهنا تعمّ المسؤولية على الجميع وفي مقدمتهم صناع القرار والمسؤولون في المؤسسات الحكومية والأهلية إضافة إلى وجهاء وأفراد مجتمعاتنا، وذلك على كل المستويات المرتبطة بالعمل الدستوري والتشريعي وفي المجالات التربوية والأكاديمية، وفي الممارسات الوظيفية، والعلاقات الاجتماعية، وميادين الإعلام والثقافة وغيرها من المجالات الحيوية.

* كاتب ومستشار قانوني