في بدايات شهر ديسمبر من كل عام، تعود على الأحياء من بني البشر الذكرى المؤلمة لتفشي فيروس «كورونا» الذي انطلق من مدينة «ووهان» الصينية عام 2019 ومن ثم انتشر في العالم مسبباً جائحة قاتلة ما زالت بصمتها حاضرة إلى يومنا الحالي، وإن خف وقعها وخطورتها.

قبل ديسمبر 2019 لم يكن في مخيلة أي بشري أن يرى بأم عينه ما شهدته، في وقت واحد ولسبب واحد، كل مجتمعات الأرض من أزمات وتعطيل وإرباك على كل المستويات الصحية، والاقتصادية، والاجتماعية، فلم يجد في حينها المتغطرس بجبروته ولا المعتز بأنفته مفرّاً من الاستسلام رغماً عنه لقدر أعظم وأكبر، لا مجال لمواجهته إلا بالخضوع ولا سبيل لمعاندته إلا بالخشوع.

Ad

وللأسف، ما إن بدأت موجة الجائحة بالانحسار حتى استعاد الإنسان فطرة النسيان التي جبل عليها وسمّي على اسمها، وسرعان ما نسي أو تناسى «كوفيد 19» بكل أهواله وعظيم تداعياته، فلم يستفد من عبر ودروس الجائحة إلا من رحمه ربّي وأنار بصيرته ليكون دائم الاستحضار لضعفه أمام مخلوق مجهري شلّ الاقتصاد وعطّل المواصلات وأجبر مليارات البشر على ملازمة منازلهم، في حين عاد أهل السوء الى سالف مسيرتهم قبل الجائحة، وعاد المنشغلون بالدنيا إلى متاعها ومتعتها، وكأنك «يا بو زيد ما غزيت»!

ما إن تراجع وقع الوباء مع ما خلفه من آثار سلبية على المنظومة الصحية والنمو الاقتصادي والاستقرار النفسي والاجتماعي، حتى عادت معظم الأنظمة والمجتمعات لسابق عهدها من الانشغال بالتفاصيل السياسية والمناكفات الفئوية والصراعات الحزبية، متناسية واجب التطوير والاستعداد البنيوي لما قد يستجد فجأة من أوبئة أو كوارث أو أزمات.

ما إن هدأ السكون المدوّي حتى انشغل الكون بصخب حرب أوروبية قضت على أي أمل في الخروج السريع من تداعيات الوباء العالمي على منظومة الأمن الغذائي وسلاسل الإمداد والطاقة، وما إن بدأ العالم بتخطّي شعور القلق من حصد الوباء لآلاف الأرواح حتى استشعر الهلع من الدخول في حرب كونية قد لا تبقي ولا تذر، لا البشر ولا الشجر ولا الحجر.

وها هي محاولات التعافي من الركود الاقتصادي الكوروني تتبدّد على وقع هدير الدبابات الروسية في أوكرانيا، ليدخل العالم من جديد في أزمة تضخم تزداد سوءاً مع تراجع النمو في كثير من البلدان المؤثرة في الاقتصاد العالمي.

من منّا عندما يرقد في سرير المرض محاطاً برعاية الأهل والأحبة، يستذكر العزلة المؤلمة والطويلة للذين أصيبوا بالوباء؟! ومن منّا عندما يدخل المقهى ليتابع مع مليارات المشاهدين حول العالم مباريات كأس العالم، يستذكر- ولو للحظة- كآبة الأماكن وسكون الطرق وخلو المطاعم أيام الجائحة؟! ومن منّا حين يغدو صباحاً الى أعماله ويعود مساء من أشغاله، يستحضر وحشة الحظر الكلي أو الجزئي؟! ومن منّا عندما يصله طلبه الاستهلاكي إلى باب داره، يتفكّر بنعمة اختفاء طوابير الانتظار من أمام منافذ البيع؟! من منّا عند مرافقته الأصدقاء والأحباء في رحلة أوعطلة، يحمد الله على نعمة الخروج من سجن العزلة الإجبارية؟! ومن منّا عندما يزور الأهل والأقارب، تعود إلى ذهنه مرارة الاشتياق اليهم في زمن الحجر؟! ومن من المسافرين والمهاجرين عند العودة لدفء البيت، يستذكر قلق وحسرة الانتظار الطويل بعيداً عنه؟! ومن من الطلاب الذين عانوا الأمرّين في التعلّم عن بعد، يتحسس ميزة التفاعل المباشر مع الأساتذة والزملاء؟! ومن من التجار الذين سدّت الجائحة أبواب متاجرهم، يتفكّر- قبل الإقدام على أي احتكار أو رفع للأسعار- بنعمة الرزق المستدام؟!

الواقع أن حالة النكران للنقمة والتنكّر للنعمة التي يعيشها قاطنو الكرة الأرضية لا تقتصر على الدول فقط، بل تجد أساسها في فطرتنا البشرية وتركيبتنا الجسدية التي تعجز معها أعيننا عن النظر الى الخلف، وكأننا جبلنا على التطلع للقادم وعدم الالتفات لما فات ومات.

فلنشكر النعمة حتى لا تزول ولندفع النقمة قبل الحلول، ولنستفد من الرخاء لدفع البلاء، ولا نطمئن لحال يتحول ولظروف تتبدّل، فالأيام دول والمؤمن كيّس فطن لا يلدغ من جحر مرّتين.

شعرت وكتبت أيام الجائحة أن العالم يتغير وعلى الأرجح أنه قد تغير، وأنه قد حانت اللحظة لإعادة ترتيب الأولويات وصياغة القناعات الفردية والجماعية، في زمن صار فيه الانكماش الاقتصادي واقعاً، وأضحى الاكتفاء الذاتي ملاذاً، وأمست الحدود السياسية وهماً، وتحوّل كل ما كان اعتيادياً- كالعمل والتعلّم والتسوق والتنقل- الى استثناء نتحسس قيمته ومعناه.

وهأنذا- بعد الجائحة- أشعر وأكتب أننا نعيش صراعاً محتدماً بين «النظام الكوروني الجديد» و«النظام الكوني العتيق»، فلمن ستكون الغلبة؟

* كاتب ومستشار قانوني