أن تكتب تعزية في فقدان قريب أو صديق أو حبيب فهو أمر صعب بل قاس جداً، وهو أمر قد كثر مؤخراً حتى جف الدمع في العيون والأحبة يصطفون طوابير طويلة محلقة إلى ما بعد السماء، وأن تتعود على الفقدان فهو الآخر شيء من المستحيل رغم أن كثيرين يسلون النفس بأن من رحلوا هم في مكان أفضل، وأن أرواحهم لا تزال معنا وبيننا، تمر أطياف من نحب بين الفينة والأخرى حتى يبدو أننا نسمعهم ينادون علينا أو يضحكون كما اعتدناهم، ثم ما نلبث أن نفيق مما بين النوم والاستفاقة أو هو ربما أحلام الأيام الصعبة.

ولكن لم تعد التعزية هي لرفاق الدرب أو الحياة بل هناك غصة وحزن عميقان عندما تموت المكتبات أو حتى توصد أبوابها كما ساد الإحساس بعد أن أعلنت مكتبة الساقي في لندن موعد إغلاقها بعد أكثر من أربعة عقود، هي قصة موت أخرى لكتاب بل كتب وبيوت تلك الكتب، أي المكتبات ودور النشر العريقة التي كانت تميز بعض عواصمنا العربية عندما كان ما يميز المدن هو كم المكتبات وعدد الكتب المطبوعة وعدد المسارح ودور السينما والفرق الموسيقية والمعارض الفنية، في حين تقلصت هذه المساحات ليزحف الإسمنت والمراكز التجارية والمطاعم الفاخرة وكثير من البوتيكات بتسميات مختلفة!

Ad

دار الساقي التي كانت كالمزار لكل خليجي وعربي يقصد مدينة الضباب لندن تعلن إغلاق أبوابها هي الأخرى بعد أن صمدت لفترة ليست بالبسيطة وسط عواصف من موجات الماديات والحسيات من الأمور والأشياء، وفي إغلاق الساقي لأبوابها في منطقة البيزوواتر نهاية لحقبة كانت لندن فيها تمثل قبلة ليس لعشاق الكتب والمراجع فقط، بل أيضا مكان للقاء الشعراء والمثقفين من مختلف الدول العربية القادمين من عواصمهم التي تفتش بين أمتعتهم على الحرف والفاصلة والكلمة أكثر من بحث رجال أمنها عن المواد المخدرة والممنوعات الأخرى، وآخرين آثروا الرحيل عندما ضاقت مساحة التعبير في أوطانهم ولم يعد أمامهم سوى الاختيار بين البقاء والموت ببطء خوفا من مشرط الرقيب أو حتى قتل الإبداع والكلمة والخيار الآخر هو البحث عن مدينة بسماء عالية حيث لا حدود مرسومة ولا خرائط!

بعد أن أغلقت الحرب الأهلية اللبنانية أبواب بيروت للباحثين عن كتاب أو جريدة أو مساحة للحوار كانت دار الساقي هي الملاذ والملجأ، حيث وقفت الراحلة مي غصوب وسلوى غاسبار وأندريه أمام تحدي نقل أجمل ما كانت تمثله بيروت إلى لندن، وهكذا كان، كنا نرمي بحقائبنا في غرفة الفندق أو غرفتنا في تلك الشقة عند مدخل البيزوواتر، ونمشي باتجاه كوينزواي، بل نجري لنسرق اللحظات، ونصل عند آخر الشارع، فننعطف يساراً، وندخل لتستقبلنا مي غصوب وهي منغمسة بين كثير من الكتب أو جالسة مع بعض الكتاب والشعراء تتباحث في إصدارات قادمة أو ندوات أو فكرة أطلقت حديثا، ومع الوقت عرفتنا مي بأسمائنا وتحولت علاقتنا بها ليست بعلاقة قارئ وكتاب وصاحبة مكتبة، بل غمستها مي بكثير من دفئها وحميميتها وترحيبها كلما عدنا للندن، وتجولها بين أرفف الكتب لتأتي بآخر الإصدارات التي تعرف أنها من اهتمامات كل قارئ مستدام عندها. بين مي غصوب ودارها أي الساقي وبين القراء القادمين من دولنا وخصوصا من بلدان الخليج حيث كثير من الكتب ممنوع ممنوع، علاقة تشبه ذاك الود القائم بين قارئ وكاتب أو بين حرف وحرف وكلمة وأخرى.

بعد دار الساقي ارتحل الصديق والأستاذ رياض الريس ليفتتح الكشكول في نايتزبرغ، حيث كان هو الآخر ملاصقاً لكتبه ومكتبته يعتني بكل كتاب ويرسم الإغلافة بجمال روحه، هو الآخر كان يتحلق حوله الكتّاب والشعراء والنقاد الذين اعتادوا صراحته وسخريته اللاذعة، رياض حمل كتبه وأوصد باب كشكوله وعاد إلى بيروت مدينته وعشقه مع إيقاف أول طلقة رصاص وصمت المدافع والقذائف، هو المؤمن بأن بيروت ستبقى دوما عاصمة للفكر والثقافة والحرية عاد قبل الكثيرين، حتى الساقي فتحت أبوابها في لبنان وهو يتعافى تدريجيا من جراح حرب الإخوة قبل الأعداء، ولكن بقيت دار الساقي مسترخية في تلك الزاوية بالبيزوواتر، تنثر الفكر وتروج للإبداع دون حدود للدين أو خوف من العادات والتقاليد والفكر المتطرف حتى القتل!

لا عزاء للمكتبات، ولا عزاء للكتب، ولا عزاء لدار الساقي.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.