إن أول ما يتبادر لأذهاننا من فكرة ربط «البصمة» بالإنتاج الوظيفي، هي خدمة استقبال المراجعين، التي تستلزم وجود الموظفين بشكل متواصل أو دوري لا ينقطع.

ولكن... كيف نتعامل مع آلاف الوظائف الأخرى التي تختلف مهامها وطبيعتها عن خدمة المراجعين؟ فهناك من يعتمد عمله على كتابة التقارير أو رسم التصاميم، أو التخطيط أو التنسيق، أو المراقبة والإشراف، وهناك من يمتد عمله إلى بيته وخارج أوقات «الدوام»، ولا تُصرف له أي مكافأة تشجيعية أو بدل، ثم نثقل عاتقه بجهاز البصمة ليحاسبه بالدقيقة، وقد خدم الوزارة خارج أوقات الدوام! ألا توجد وسائل أخرى لإثبات الحضور وجودة العمل؟!

Ad

ناهيكم عن التكدس الوظيفي والبطالة المقنعة التي لم يجدوا لها حلاً، فبدلاً من أن يخلقوا فرصاً جديدة للعمل، خلقوا لنا أزمة مرورية جديدة! وتحوّل العاطل إلى مزاحم!

كان من الأجدر إعادة هيكلة جميع قطاعات الدولة وترتيب الأولويات ودراسة طبيعة كل إدارة ومهامها، وسعة استيعاب كل إدارة بالعدد الكافي، وتحويل الموظفين الزائدين عن حاجة الوزارة إلى جهات أخرى.

لذلك أتمنى أن ننشئ هيئة مختصة لدراسة وتنظيم احتياجات سوق العمل، وأن تكون لهذه الهيئة مكاتب بكل وزارة وجامعة، لتكون مركز الوصل بين الجامعات والوزارات والموظفين، ولكشف أو معرفة الموظفين «شبه العاطلين» أو المجمدين في وزاراتهم، وربطهم للعمل في وزارات أخرى أو في القطاع الخاص.

أعزائي القرّاء، يقول لي أحد الزملاء: كنت موظفاً في إحدى الإدارات الفنية التي تحتاج إلى ساعات إضافية خارج أوقات «الدوام»، وكانت الإدارة ترسل كتاباً رسمياً باسم الموظف المكلف لإعفائه من البصمة في الأيام المحدد ذكرها، ليسهل عليه تصوير المؤتمرات وحفلات التكريم، وكان بعد كل تكليف تقريباً يُخصم من راتب هذا الموظف المسكين، ويصله استدعاء من الشؤون القانونية بعد ثلاثة شهور! لأن جهاز البصمة «المُوقّر» لم يره في ذلك اليوم! والسبب تباطؤ الموظفة في إرسال «كتاب الإعفاء» لإدارة شؤون الموظفين.

عندما تكررت هذه الحادثة، وتكررت الخصومات والاستدعاءات والتحقيقات، وزاد الحمل النفسي والمالي على صاحبنا المجتهد. قال له أحد المحققين في الشؤون القانونية، وبكل صراحة: «تبي معاشك، والا تبي تصور؟...»، فقال: «أكيد أبي معاشي»... قال: «البصمة أهم من الشغل!».

هذه إحدى القصص التي تُبين لنا خلل النظام الإداري، الذي ترك المُقصّر، وعاقب المجتهد، واحتكم لجهاز البصمة «الرقيب الأعور»! وكأن القاعدة العامة تقول: ما دام الموظف متواجداً في مقر عمله فلا إثم عليه!

أعتقد أننا في أزمة نظام إداري تقليدي، لا يعطي وصفاً واضحاً لمهام كل مسمى وظيفي مع طرق تقييمه ومحاسبته، ولا يمتلك أدوات حديثة لقياس مؤشرات الأداء، ولا يتمتع برؤية بعيدة الأمد، أو خطة تطوير للموظفين والمتميزين، أو إدارة المواهب.

أعزائي القراء، إن أهمية إثبات حضور الموظف «بالبصمة» مع افتقارنا لأدوات التقييم، كأهمية الطالب الذي ينام في الحصة.