إجازة الصيف لهذا العام كانت استثنائية حين قررت عدم التدريس في الفصل الدراسي الصيفي الجامعي لأنني بحاجة ماسة للراحة التامة، ولتخليص الكثير من الأمور المتعلقة بالصحة والعائلة وغيرهما، وقد كان صيفا ساخنا، ناهيك عن درجات الحرارة المرتفعة في أغلب الدول، فكان لي أن أقضي الإجازة في ربوع بلدي الغالي، وأن أتفرغ لأمور لم يكن لدي الوقت للانتباه لها، كما أنها كانت فرصة للاهتمام بالجانب النفسي والاجتماعي والرياضي.
أتاحت لي الإجازة الهادئة بعيداً عن صخب المطارات والطائرات التأمل في الكثير من الأمور المتعلقة بجوانب القراءة والتأمل والنظر في محتوى وسائل التواصل الاجتماعي بعدسة مختلفة عما كنت أراه أيام انشغالنا في الجامعة والطلبة والتدريس والبحث العلمي وغيرها من الالتزامات، وسنحت لي الإجازة النظر فيما حولنا بعدسة أكثر وضوحا، وباعتقادي أنني توصلت الى نتيجة بأن الكثير من محتوى برامج التواصل الاجتماعي أصبح ساحات فارغة ملؤها المبالغة في التباهي، وكما نطلق عليه باللهجة الكويتية «التفلسف» والاستعراض لإظهار ما يمكن التباهي به من أمور مادية مستهلكة فقط لمجرد ملء مساحات وساعات من البث والتواصل، وكأننا في عرض لا ينتهي لمنتجات استهلاكية.
فيما يتعلق بالسفر والترحال أتذكر جيداً وكأنه بالأمس رحلاتنا الصيفية مع الوالد، رحمة الله عليه، منذ منتصف السبعينيات حيث كنا في سن يسمح لنا بالسفر، فقد كان محباً للسفر في وقت لم يكن هناك أي وسيلة للتوثيق سوى التصوير الفوتوغرافي والكاميرا السينمائية والأشرطة التي نقوم بتشغيلها لاحقا بمشاهدتها في محيط العائلة، وكان عنصر المفاجأة دائما حاضراً، حيث إن علينا الانتظار لحين تحميض الفيلم والصور لنتمكن من مشاهدة ما تم التقاطه حين أسترجع الشريط السينمائي على مدى سنوات طويلة من الترحال الى وجهات كثيرة مع الوالد، لدرجة أن الكثير منها لا أتذكره بدءاً من أقصى شرق قارة أوروبا الى غربها وإلى والجزر وإلى أميركا الشمالية والجنوبية، وكل ذلك بدون استعراض، بل لمجرد المتعة والتعرف على ثقافات الشعوب والاستمتاع بتجربة السفر.
وكنت أتذكر والدي دائما في نهاية الإجازة وبداية العام الدراسي يسألني «ها بنيتي قلتي حق ربعج وين رحتى على سبيل المزاح وكان ردي دائما: لا يبا ما قلت لهم»، لا أعلم ربما كان من طبعنا أن «الأناسة» كما كان يقولها أبي والسفر والترحال أمور شخصية وفوائدها بلا شك كثيرة وكان آخر همنا هو التباهي.
أما في هذا الوقت فاستعراض لا ينتهي فقط لملء المحتوى في كل وقت، خصوصاً لمن يطلق عليهم «البلوقر» أو ناشطي التواصل الاجتماعي في كل ثانية ودقيقة، ولأبسط الأمور بشكل ممل ومكرر وفاقد لقيمته، وهناك بالطبع الاستثناءات لبعض من يستعرض رحلاته بشكل في حدود المعقول لتعم الفائدة، ولكن باعتقادي الأغلب يود الاستعراض بالدرجة الأولى وفي أغلب الأحيان يكون سعيهم وراء الشهرة التي ستجعلهم أداة ووسيلة إعلانية لمنتجات استهلاكية، وحتى إن كان البعض بالفعل لديه ما يقدمه من محتوى ويفوز بلقب صانع المحتوى فإنني أعتقد أن القليل من المحتوى يسعى بالفعل لفائدة المجتمع المحيط.
وكان لي متابعة لأحد الفنانين المهتمين بشؤون الثقافة، وبالفعل أوافقه تماما بأننا في عصر يرفع أسهم التفاهة والتباهي ويروج لمتابعة الكثير من اللا محتوى حتى في طريقة التصوير والاستعراض وما يطلق عليه «الفلوق»، وغيرها وباعتقادي الشخصي أن لتلك الأمور المتعلقة بترويج التفاهة والسطحية أثاراً كبيرة على جيل يكبر وينمو على هذا المستوى من السطحية والمقارنة بالآخرين ومحاولة التقليد وملاحقة كل ما هو «ترند» أو «هبّة»– بوضع علامة الشدّة على حرف الباء– وهو ترجمة بلهجتنا الكويتية لما هو سائد، وقد يكون هذا الأمر شائعاً حتى في فترات سابقة، ولكن لا يقارن بالوضع حاليا في ظل تلك الوسائل وانتشارها وتأثيرها الاستهلاكي.
فعلى سبيل المثال من الأمور التي لاحظتها خلال إجازة الصيف طوابير الانتظار الطويلة على بعض المحلات المتخصصة ببيع الحلويات، وعند الاستفسار يتضح أن أحد المشاهير قام بالترويج لهذا المنتج أو لغيره سواء كان منتجاً غذائياً أو طلاء للأظافر. بالطبع الكثير يعتقد أنها اختلاف ثقافات وأن بعضنا قد يكون «أولد سكول» لكنني أشعر بفخر شديد بعدم الانتماء لهذا العالم، ولن أقف ساعة ونصف لمجرد اقتناء قطعة من البسكويت لأقوم بتصويرها بسناب لاحقا.
بالإضافة الى ذلك أصبحت الكثير من هذه الوسائل حلبات مصارعة بين المشاهير لأمور متعلقة بحياتهم الشخصية ولسبب ما اتخذوا القرار بأن تكون الحرب بينهم والصراعات معلنة، وفي بث مباشر على وسائل التواصل، وأصبحت أيضا مجالا للمشاهير كما يطلق عليهم لتبرير الكثير من الأمور التي لها علاقة بقضايا قد تصل الى المحاكم والسجون ولاستعراض حياتهم الشخصية، وكم هم بريئون من كل ما ينسب إليهم من تهم.
أعرف البعض ممن قرروا إغلاق بعض حساباتهم في تلك الوسائل لأسباب أجدها منطقية الى حد ما، فمثلاً حواري مع أحدهم بينوا لي (أنهم سئموا من مشاركة الآخرين بشكل شبه يومي فيما يقومون به وأن الكثير من المتابعين لهم لا يشاركونهم بأي محتوى ولكن فقط يراقبون ما ستقوم بعرضه)، وهذه من الأمور بالفعل التي يمكن ملاحظتها على المستوى الشخصي، فبعضهم يراقب الآخرين لكنه يرفض أن يشارك بأي محتوى متعلق بحياته، وقد ينزعج البعض من هذا التصرف، وكأنني أشبه السناب شات على سبيل المثال بأن هناك شخصاً يغلق جميع نوافذ بيته ومنزله وينزل الى الشارع وهو يتطلع الى أي نافذة من النوافذ ليلقي نظرة على حياة الآخرين، وللبعض تلك ظاهرة غير صحية.
كل ما سبق أضيف إليه عجبي بالحد الذي غيرت فيه «السوشيال ميديا» حياتنا الشخصية والعائلية وعلاقاتنا بالأصدقاء والعائلة، والقدر الذي أصبحت تشغل فيه هذه الأجهزة الصغار قبل الكبار لدرجة الإدمان وعدم القدرة على التخلي عنها ولو لدقائق، وأحيانا أتامل فترة التسعينيات قبل ظهور الهواتف المحمولة وانتشارها بشكلها الحالي، كانت أمورنا يسودها الهدوء، ألا تتفقون معي؟ لم نعان من ضوضاء وتلوث سمعي وبصري مفروض علينا على مدار الساعة.
يقال إن بعض الدول خصصت بعض المنتجعات التي يمنع فيها استخدام تلك الأجهزة وتلزم النزيل بالابتعاد عنها قدر المستطاع خلال إقامته، وباعتقادي أنها فكرة جيدة للغاية للتخلص من سموم الشحنات السلبية التي تحيط بالجميع بسبب ارتباطهم وتعلقهم الشديد بأجهزتهم المحمولة.
لا أملك أن أتصور حالنا في المستقبل القريب، فما ينتظرنا من تغييرات بفضل القادم من جيل الذكاء الاصطناعي وما أقول الا الله يلطف بنا ويجنبنا شره وينفعنا بخيره.
نصيحة من متخصصة في دراسة السلوك المعلوماتي لفئات المجتمع المختلفة: من الجيد لصحتكم النفسية والبدنية ولتحسين علاقاتكم الاجتماعية وعدم الانجرار في عوالم اللامحتوى استثمروا أوقاتكم قدر الإمكان في تنمية الذات من خلال أنشطة بسيطة تضمن لكم الابتعاد ولو لساعات معدودة عن أجهزتكم، كالقراءة والرياضة والتأمل، وهناك بالتأكيد الكثير من الطرق الأخرى.
بالنسبة لي وبالرغم من حرارة الخمسين درجة فإنه كان صيفا هادئا وفرصة للتأمل في نواح وأمور كثيرة في علاقتنا مع الأبناء والعائلة وصحتنا وأولوياتنا وراحة بالدرجة الأولى من «لوية» وإزعاج المطارات في الصيف وفرصة أيضا لقراءة كتب كثيرة كانت من ضمن قائمة طويلة أحببت أن أكملها.
عطلة سعيدة للجميع وعساه صيف ينتهي على خير!