في زمن الاضطرابات الجيوسياسية، لم يتحمّل الكثيرون حول العالم مشاكل اجتماعية واقتصادية أكثر من أميركا اللاتينية، حيث تشمل دول هذه المنطقة 8 في المئة من سكان العالم فقط، لكنها سجّلت أكثر من 40 في المئة من مجموع الوفيات المرتبطة بأزمة كورونا، حتى أنها تحمّلت أكبر انكماش اقتصادي منذ أكثر من قرن خلال السنة المالية المتزامنة مع الجائحة، وحين بدأت المنطقة تعافيها الاقتصادي، عادت وتعرّضت لصدمتَين أخريين: الحرب الروسية في أوكرانيا، وأزمة التضخم العالمية، وبدءاً من أكتوبر 2022، اقترب متوسط التضخم في أنحاء المنطقة من 15 في المئة، وارتفعت مستويات الدين العام إلى ما يفوق الـ70 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الإقليمي.

قد يبدو ارتباط الاضطرابات الأخيرة في أميركا اللاتينية بأحداث بعيدة مفاجئاً، ففي معظم فترات العقود الثلاثة الماضية، بقيت هذه المنطقة عموماً على هامش الصراعات الجيوسياسية الكبرى، بدءاً من الحروب في أفغانستان والعراق وسورية، وصولاً إلى طموحات الصين المتوسّعة في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، فكانت المسافات الجغرافية والسياسية كافية لإبقاء المنطقة منشغلة بمشاكلها الداخلية مثل توسّع مظاهر اللامساواة، والجرائم العنيفة، واستفحال الفساد.

Ad

لكن الأحداث الحاصلة في النصف الآخر من العالم بدأت تؤثر في اقتصادات أميركا اللاتينية وظروفها السياسية الآن أكثر من أي مرحلة أخرى منذ نهاية الحرب الباردة، وشكّل التباطؤ الاقتصادي المطوّل في الصين، وتحليق الأسعار بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وارتفاع معدلات الفائدة بقرارٍ من الاحتياطي الفدرالي الأميركي وبنوك مركزية رائدة أخرى، خليطاً مثالياً لزيادة الضغوط على اقتصادات المنطقة الراكدة أصلاً، وفي غضون ذلك، لا تُعتبر الديموقراطيات في أميركا اللاتينية سليمة بمعنى الكلمة، فحتى الآن، لم تنضم إلا نيكاراغوا وفنزويلا إلى كوبا في معسكر الأنظمة الدكتاتورية الشاملة، لكن السلفادور، وغواتيمالا، والمكسيك، تشهد تراجعاً ديموقراطياً واضحاً، وكانت البرازيل تسير في الاتجاه نفسه قبل أن يطيح الناخبون بالشعبوي اليميني جايير بولسونارو في أكتوبر، وفي الوقت نفسه تشهد الأرجنتين، والإكوادور، وبنما، اضطرابات واسعة النطاق.

ليس مفاجئاً إذاً أن يقلق بعض المحللين في أنحاء المنطقة من تكرار أحداث «العقد الضائع» خلال الثمانينيات، وكما يحصل اليوم، تدهورت اقتصادات أميركا اللاتينية في تلك الفترة أيضاً بسبب زيادة الديون، وصدمة الأسعار من خارج المنطقة، وارتفاع معدلات الفائدة بدرجة هائلة، فغرق أكثر من 20 مليون شخص في فقر مدقع وتلاشت بذلك نتائج تحسّن مستوى المعيشة على مر عقود عدة، وصمدت معظم الديموقراطيات الناشئة في المنطقة، لكن وضعها بقي هشاً واحتاجت اقتصادات كثيرة إلى أكثر من عشر سنوات للتعافي، فقد تكون النتيجة هذه المرة أسوأ بكثير، فقد سئم جزء كبير من سكان أميركا اللاتينية من الاختلالات الديموقراطية، ولا يبدو معظم الناخبين مستعدين لتحمّل الآثار الجانبية المؤلمة لكبح التضخم وتقليص الديون، مع أن البنوك المركزية في المنطقة أصبحت أكثر قدرة على التعامل مع الأزمة، وإذا عجزت الحكومات في أنحاء المنطقة عن تصحيح مسارها من دون افتعال اضطرابات اجتماعية إضافية، قد تخسر أميركا اللاتينية عقداً آخر من حياتها، وقد لا تكون الأضرار الاقتصادية بالحجم نفسه هذه المرة، لكن قد تنشأ اضطرابات سياسية أكثر خطورة وتنتج عواقب قادرة على بلوغ الولايات المتحدة عاجلاً أو آجلاً.

رغم جميع النزعات المقلقة في الفترة الأخيرة، يستبعد بعض المراقبين العودة إلى العقد الضائع، فهم يتكلمون عن البنوك المركزية المستقلة في المنطقة ومقاربتها الاستباقية لتطبيق سياستها النقدية، وبرأي هذا المعسكر، أصبح الاقتصاد الأميركي بحد ذاته مثقلاً بالديون اليوم، لذا من المستبعد أن يرفع الاحتياطي الفدرالي أسعار الفائدة بمستويات تفوق العشرة في المئة، كما حصل في بداية الثمانينيات، وقد تكون هذه الفرضيات صحيحة، لكنها لا تعني بالضرورة أن أميركا اللاتينية لم تعد معرّضة للمخاطر، والسبب بسيط أن الوضع السياسي أصبح متقلباً على نحو متزايد اليوم، وتبدو المؤسسات الديموقراطية في بلدان كثيرة هشة أكثر مما كانت عليه في أي مرحلة أخرى من العقود الثلاثة الماضية.

خلال الثمانينيات، كانت معظم الديموقراطيات في المنطقة حديثة العهد، ففيما يتعلق بسكان أميركا اللاتينية حينها، كانت تجربة الدكتاتوريات العسكرية الدموية لا تزال جديدة، وقد أخذ البعض مجازفات شخصية لإسقاط تلك الأنظمة، فكانت الأغلبيات في معظم الدول مستعدة لتحمّل اختلالات الديموقراطية، وحتى الأضرار الاقتصادية بدرجة معينة، من دون الانقلاب على الديموقراطية بحد ذاتها.

لكن الفئات المستعدة لتحمّل هذا النوع من الاضطرابات تتراجع اليوم، ففي بلدان عدة، تبرز منذ الآن مؤشرات على هشاشة المؤسسات الديموقراطية خلال أي أزمة مطوّلة، ووفق استطلاع أجرته منظمة «أميركاز بارومتر» عام 2021 مثلاً، عبّر معظم المشاركين عن استيائهم من أنظمتهم الديموقراطية في جميع دول المنطقة باستثناء أربعة بلدان، وأبدوا استعدادهم أيضاً للتخلي عن الانتخابات الحرّة مقابل تأمين أبسط المداخيل والخدمات، وفي الوقت نفسه، تشير الاستطلاعات إلى توسّع الفجوة بين مختلف الأجيال في أميركا اللاتينية على مستوى المواقف من الديموقراطية، إذ يبدو أبناء جيل الألفية وما بعده أقل تأييداً للديموقراطية من أهاليهم، إنها ثاني أكبر فجوة تُسجّلها أي منطقة في العالم.

حتى الآن، عبّر الناس عن استيائهم في صناديق الاقتراع، فكان لافتاً أن تخسر أحزاب الرؤساء المنتهية ولايتهم في آخر 15 انتخابات رئاسية في المنطقة، فلم تكن البرازيل استثناءً على القاعدة، وخلال الانتخابات الرئاسية في أكتوبر خسر الرئيس المنتهية ولايته جايير بولسونارو أمام الرئيس اليساري السابق لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، وعجز بولسونارو لحسن الحظ عن إضعاف استقلالية المحاكم المحلية أو النظام الانتخابي أثناء وجوده في السلطة طوال أربع سنوات، وتبدو دعواته للانقلاب على نتائج الانتخابات محكومة بالفشل.

لكن الاستياء الشعبي من التضخم وتدابير التقشف الحكومية بدأ يتخذ منحىً فوضوياً في بلدان أخرى، ففي بنما مثلاً، أطلق ارتفاع الأسعار في شهر يوليو سلسلة من أكبر الاحتجاجات المعادية للحكومة منذ سقوط الدكتاتور مانويل نورييغا، عام 1990، وأدت احتجاجات حاشدة أخرى إلى شلّ العواصم في الإكوادور والأرجنتين، وفي بداية أكتوبر حين أعلن رئيس حكومة هايتي أن البلد يتّجه إلى تخفيض دعم الوقود، فبدأت موجة جديدة من أعمال العنف وتوسّعت مظاهر الفوضى، وكانت تلك التحركات ترتكز على موجة احتجاجات حاشدة بدأت تتوسّع على مر العقد الماضي ضد السياسات الحكومية وشبكات الأمان الاجتماعي الهشة، كما حصل في البرازيل عام 2013، وفي تشيلي عام 2019، قد تنشأ اضطرابات شائكة حين تُخفّض الحكومات دعمها أو ترفع أسعار الخدمات العامة بدرجة بسيطة، فإذا أصبح هذا النمط شائعاً، قد تترسخ الاضطرابات المزمنة ويصبح حُكْم البلد مستحيلاً، حتى أن هذا الوضع قد يؤدي في أسوأ الأحوال إلى تفكك الديمقراطية في البلدان التي بدأت تغيّر مسارها.

لكن ثمة اختلاف بارز آخر بين وضع المنطقة اليوم وفترة الثمانينيات، فخلال العقد الضائع، كانت الهجرة الجماعية نحو الولايات المتحدة لا تزال في بدايتها، وكان معظم المهاجرين يأتون من المكسيك والكاريبي وشمال أميركا الوسطى، لكن زادت موجات الهجرة خلال العقود اللاحقة بدرجة ملحوظة، إذ بدأ الناس من جميع أنحاء المنطقة يراهنون على بلوغ الولايات المتحدة بأي طريقة. خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2022 وحده، سجّل المراقبون على الحدود الأميركية أكثر من مليون مهاجر من أميركا اللاتينية على الحدود الجنوبية الغربية، وتجاوزت أعداد القادمين من شمال أميركا الوسطى والمكسيك للمرة الأولى أرقام الوافدين من مناطق أبعد مثل فنزويلا، وكوبا، وهايتي، ونيكاراغوا، وإذا استمر الركود الاقتصادي، فقد ترتفع تلك الأرقام بدرجة إضافية.

إذا نجحت حكومات المنطقة في إقامة التوازن المطلوب عبر تخفيض الديون والتضخم من دون تفكيك شبكات الأمان الاجتماعي، فقد تتمكن من تجنّب عقدٍ ضائع آخر، وتتطلب هذه العملية كمّاً هائلاً من الموارد، لكن نظراً إلى تراجع الميزانيات العامة، وصعوبة تحقيق التعافي الاقتصادي العالمي المنشود، وتركيز صانعي السياسة الأميركية على ملفات أخرى، فمن المستبعد أن تجمع الدول الموارد التي تحتاج إليها في أي وقت قريب، فخلال الثمانينيات خسرت أميركا اللاتينية عقداً كاملاً من الاستقرار الاقتصادي من دون أن تخسر ديموقراطيتها، لكن إذا بدأ عقد ضائع جديد بعد عام 2020، فستصبح جميع الخيارات واردة.

* ويل فريمان