كثيراً ما تراود عقلي أسئلةٌ عن أولئك الذين هجروا جنان الدنيا المترعة بأسباب الحياة، وتخيَّروا أسخن بقاع الأرض وأفقرها ماء ونبتاً، ثم أخذوا يبثون فيها الحياة على فقرها، ويصارعون ليس للبقاء وحده بل ليصنعوا لأنفسهم شخصيَّة مستقلة وسط القوى الإقليمية العظمى، اختاروا ملتقى الصحراء بالبحر، ثم شرعوا يبنون مدينتهم لتكون صورة عن نفوسهم، أحياءٌ متجاورة إلى حدِّ الالتصاق، تتخللها سكك ضيِّقةٌ لم تُخَطَّ لتكون فاصِلاً بين البيوت، بل لتكون ملتقى لأهل تلك المنازل الطينية المبنية بناء يشبه الأضلاع التي تنحني لتحتضن القلب، بيوتٌ وُزِّعت فيها الغرف لتتحلَّق حول مساحة مفتوحة تجمع أهل الدار في حوارات دائمة، وخُصِّصَت إحداها لتكون ملتقى أهل الحي فسميت «الديوانية»، وما الديوانية سوى جدران تحتضن الحوار، وإذا فتحت الباب خارجاً من البيت إلى السكة الضيقة، قابلتك الدكة التي تجمع صاحب البيت بالمارة لتكون سبباً لخلق حواراتٍ عارضة. وإذا خرجت من ذلك الضيق الحميمي، قابلتك «البراحات» الواسعة، تلك الساحات الترابية التي قد تلتقي أحياناً بالبحر، أو تُحشر بين الأحياء حشراً كأنها رئة تتنفس بين تلك الأضلاع، مساحاتٌ ينطلق فيها أطفال الأحياء لاجئين من حوارات الكبار في ذلك الضيق، إلى نوع آخر من الحوار، حوار اللعب بكل ما يحدث فيه من أفعال وأقوال، غناء وصراخ، ضحك وبكاء، منافسة وتعاون، شجار وتصالح، فكأنها حياةٌ صغيرةٌ أُقِيمت في حياةٍ كبيرةٍ ليتهيأ فيها الأطفال على التكيف مع مجتمعٍ يعيش في حوارٍ دائمٍ، وتلاقحٍ مستمرٍ بين الأفكار، ووصالٍ لا ينقطع بين القلوب والعقول.

وكذا الحال في السوق، فالدكاكين التي أُنشئت للعرض الخاضع للطلب، كانت عند القوم «ديوانياتٍ» مصغّرة، يضع أمامها التاجر من الكراسي ما يسمح له بإقامة حواراتٍ بينه وبين أهل السوق ورواده، وفي السوق أيضاً تجد «الكشك» الصغير الذي أقامه الحاكم ليحاور شعبه كل يوم، فكأن السوق عندهم بقي على الحال التي تركها أجدادهم في الجاهلية، حين كان السوق مؤسسة اجتماعية وثقافية وأدبية لا مجرد معبدٍ رأسماليٍّ لتمجيد آلهة الاستهلاك.

أمَّا إذا يمَّمت شرق تلك المدينة فستوصلك رجلاك بعد خطواتٍ قليلةٍ إلى البحر، ذلك المانع الطبيعي الذي أفقدته إرادةُ سكان المدينة صفةَ المانع، بل قلبتها إلى نقيضها، فقد غدا البحر بإرادتهم نقطة اتصال لا انقطاع، فبه استطاعوا الانتقال من الحوارات المحلية في البيوت والسكك والبراحات والأسواق، إلى حوار أوسع نطاقاً، وأغنى ثقافة، حوارٍ لم يكن بلغةٍ واحدةٍ، ولا بين حضارة واحدة، ولم يَدُرْ بين عنصر بشري واحد، حوار اشترك فيه الفارسي والهندي والإفريقي والتركي والعربي، فيما يشبه عولمة حقيقية جعلت عالمهم في حينها قرية صغيرة مطلّة على شاطئ البحر، تلتقي فيها أديانٌ عريقة، وثقافات قديمة وجديدة، وتقترض اللغات من بعضها ألفاظاً وتراكيب، وتُتَبادَل فيه المصالح والمنافع، إنها عولمة حقيقية لأن الكل مشاركٌ فيها بصفته الحضارية والثقافية، والكلُّ مستفيدٌ منها، لا كالعولمة البائسة التي نعيشها، العولمة التي لا يدور فيها حوار بل إملاءٌ يصدر عن القوي عسكرياً واقتصادياً إلى الضعيف في هذين البُعدَين، ولا تُتَبَادل فيها المصالح والمنافع إلا بمقدار ما يجود به القوي على الضعيف. ولم يكن سكان هذه الأرض بدعاً في حوارهم الذي تصح تسميته «حياة»، أو حياتهم التي يصح نعتها «حواراً»، فهم أبناء لغةٍ احتفت بالمجاز، وتباهت بتعدد المعاني، واستوعبت بحريتها كل العقول، على الرغم مما يبدو لدارسها من كثرة القواعد التي قد يخالها تَضِيقُ على مستعمليها، ولكن تلك القواعد على الحقيقة ليست سوى معادلٍ لتلك السكك الضيقة المفضية إلى «البراحات» الواسعة أو إلى البحر الشاسع، فالضيق ينتهي إلى سعة، وبين الضيق والسعة لا ينقطع الحوار، لذا اتسعت في العربية آفاق التأويل النحوي والدلالي للنصوص، ليكون النص الواحد مجمعاً للعقول المتنوعة، والقراءات المتعددة، والآراء المتجادلة، فلكل قارئٍ حقٌّ في تأمُّل النصِّ بما لديه من أصول وثقافة وهموم ومذهب، والاستمتاع بنصيبه من ثمرات الفكر والإبداع.
Ad


ويتجلى اتساع اللغة العربية بأوسع مدى في القرآن الكريم، فهو النص العربي المنفتح على القراءات المتنوعة بل المتقابلة أحيانا التي بمجموعها تشكل ما يسمى مناهج التفسير، فمن قراءةٍ تفسِّر القرآن بالقرآن، إلى أخرى تفسِّره بالحديث، وثالثة تعرضه على كلام العرب وسننهم اللغوية، ورابعة تتأمله بعقل الفيلسوف أو المتكلم، وخامسة تنبع من مواجيد القلب وأذواق أهل الكشف، وكل الفهوم المتكاملة والمتعارضة تقف على أرض اللغة العربية بما في باطنها من كنوز الاحتمالات المعقولة لدلالات الألفاظ والتراكيب، لتكون تلك اللغة مِدادا لكلمات الله، فلا تنفد هذه إلا إذا نفدت تلك، وهيهات وقوع مثل هذا النفاد.

ومن ذلك الحق الذي أسسته اللغة يصدر حقٌّ آخر للقارئ، أعني حقه في أن يكون شريكاً منتجاً للثقافة والفكر، وشريكاً منتجاً للفهم، وشريكاً متفاعلاً في الحوار والاختلاف، بل إن هذا ليس مجرّد حقٍّ في الإسلام بل هو واجبٌ تفرضه خلافة الإنسان لله في الأرض، فليس للإنسان أن يمتنع عن أن يكون فاعلاً في الحياة، ساعياً إلى تغيير واقعها للأفضل، مصلحاً ما فسد فيها.

وفي صفحات الثقافة العربية نجد تجلياً بديعاً لهذه الحال، فنحن نشهد كيف كان المصنف يُصنِّف كتاباً في علمٍ من العلوم أو فنٍّ من الفنون، فما يلبث أن يصبح الكتاب متناً، ليصير مساحة لجدل يفتتحه شارحٌ يفك غموض النص، ويتبعه مُحَشٍّ يتتبع المتن والشرح بملاحظاته ونقده، فيستثير بذلك معلِّقاً ينهض للتصدي لآراء ذلك المحشِّي، فإذا بمقرِّرٍ يوسعُ رأي ذلك المعلّق، وهكذا تتولد من الكتاب الواحد أربعة كتب نتيجة تلاقح الأفكار، وتجادل الآراء.


وبعد هذه الملحمة يأتي الناشر القديم ليجمع هذه الكتب الخمسة بين دفتي كتاب واحد، فتقرأ العين في الصفحة الواحدة خمسة عقول تتحاور لتتكامل الأفكار وتكتمل العلوم، وكأن تلك الصفحة معادل للحوش أو الديوانية أو البراحة أو كراسي المتاجر في السوق، أو مجلس الحاكم في الكشك، إن نصوصنا حياة، وحياتنا نصوص، وليس من المبالغة إذا وصفناها بالنصوص المتفاعلة «Hyper text».

ويبدو أن لهذه الحوارية الخصبة جذوراً في تكوين الإنسان الفسيولوجي والعصبي، فعلماء اللغة والمشتغلين بدراسة ظاهرة التفكير يجعلون الحوار على ضربين، فحوارٌ بين طرفين أو أكثر في الخارج، وحوارٌ داخلي يجريه الفرد مع نفسه، وما لأي ضربٍ من هذين الضربين أن يُنجَز في معزلٍ عن أخيه، فلا يمكن أن نمارس الحوار الداخلي من دون تجارب مسبقة من الحوار بين الأطراف الخارجية، ولا نستطيع خوض حوارات خارجية من دون أن نمتلك أفكاراً نتجت عن حوارنا الداخلي، ومن تَجَمُّع نتاج الحوارَين تنتج الذاكرة، التي نعتمد عليها في إقامة حوارات جديدة مع أنفسنا والآخرين، وعليه يمكن القول، إن التعددية جوهر العقل، ومن دونها لا يمكن للعقل أن يكون عقلاً، إذ كيف نُفَكِّر إذا لم نستقبل أفكار الآخرين وتجاربهم، ولم نعالجها بنار التفكير، ولم نطوِّرها بالحوار، وإذا كان العقل جوهر الإنسان، والحوار شرط العقل، فإن إهدار الحوار إهدارٌ لإنسانية الإنسان. إن هذه العمليات الجدلية بين الحوار الداخلي والحوار الخارجي والذاكرة تذكرني بفكرة النصوص المتفاعلة أو الفائقة Hyper text، وهي نصوص إلكترونية تضم روابط تشعبية تحيل إلى نصوص أخرى، وهكذا تتوالد النصوص من النص الواحد، ويتحول النص إلى متنٍ يدفعك إلى عالم من النصوص المتحاورة والمتكاملة والمتناقضة، فيظهر لك المشهد بزوايا عديدة تثري تجربة الفكرة، وتجعل العقل أرضا خصبة لنمو أفكارٍ جديدة.

إن هذا النمط من التفكير الحواري هو أصل التربية النقدية التي ترى أنَّ التربية فعلٌ غير حيادي، فهي فعلٌ سياسي يسعى فيه المسؤولون عن التربية إلى تشكيل هويات الطلاب بما يتوافق مع ما تراه الفئات المسيطرة، أي مع حكومات الدول التي تتبنى معارف ومعلومات وأفكاراً تعطيها صفة الرسمية، ثم تصبّها في مناهج رسمية ليُلقِّنها المعلمون للطلاب، أما المعرفة التي لا تتلاءم مع المعرفة الرسمية فإنه يمكن أن نسميها «معرفة اللّا مِساس»، فهي معرفةٌ محرَّمةٌ يجب إبعاد طلاب المدارس عنها، وليس غريباً أن تكون المدرسة من أهم مؤسسات ترسيخ المعرفة والثقافة الرسميتين، فجمهور التعليم أكبر جمهور يمكن أن تتوجه إليه الأيديولوجيا السائدة، وأكثره قابلية للتأثر بها، إلى حد الاعتقاد والإيمان بما تمليه عليه، وشعار «التعليم للجميع» خير ممثل لهذه الفلسفة الساعية إلى إعادة إنتاج المجتمع بالصورة نفسها لضمان مصالح الفئات المستفيدة من الأيديولوجيا الرسمية.

ولأن المعرفة الرسمية معرفة واحدة، وأن الطلاب يجب أن يكونوا متساوين في تحصيلها بغض النظر عن فروقهم الفردية، فإنَّ التعليم الرسمي لا يشجع على مساءلة المعرفة، ولا يهمه مدى مناسبتها لخصوصية كل فرد الناتجة عن الاختلافات الثقافية والسياقات الاجتماعية والاقتصادية المميزة بين الأفراد، وبهذا يمكن تشبيه التعليم الرسمي بمطابع العملة، فعلى الرغم من أن كل ورقة تخرج من هذه المطبعة ذات رقم مسلسل يميزها عن أخواتها، فإن جميع الأوراق لها شكلٌ واحدٌ، وقيمةٌ واحدةٌ، وقوةٌ شرائيةٌ واحدة، لذا فإن أبلغ وصفٍ لهذا التعليم هو ما وصفه به المربي البرازيلي باولو فيريري في قوله إنه «تعليم بنكي».

وترى التربية النقدية أن المعرفة يجب ألا تقتصر على تفسيرٍ واحدٍ، وأن من الإساءة للمعرفة وللتعليم أن نجعلهما خادمَين لمصالح طبقةٍ أو فئةٍ بعينها، ففي ذلك ظلمٌ للتنوّع المعرفي الخلّاق، وإفقارٌ للتجربة الثقافية الزاخرة بصنوف الهويات المتصارعة والمتكاملة والمتناغمة، كما أن هذه الواحدية المعرفية تجعل الفرد يعيش حالاً من الاغتراب المعرفي حين تُفْرَض عليه المعرفة فرضاً، من دون أن يحس بأنها تمسُّ حياته، أو تعالج همومه ومشكلاته، أو تراعي ثقافته الدينية أو المذهبية أو الفئوية، فكأنّه مطالَبٌ بالتخلي عن هويته حتى يكتسب هوية رسمية يجود بها التعليم عليه، وعندها لا يجد الفرد مناصا من مجاراة تلك المعرفة من دون قناعة بجدواها، فهو يطلبها للشهادة لا لذاتها، وهو يتعامل معها تعامل ابن البلد مع المحتل، يرفضه ويضطر إليه في الوقت نفسه.

من هذا المنطلق تُسائِل التربية النقدية كثيراً من المفاهيم الدارجة في أصول التربية سواءٌ أكانت فلسفية أم اجتماعية أم نفسية، فعلى سبيل المثال، نقد النقاد التربويون ما هو مستقرٌّ منذ جان بياجييه من تحديدٍ لمراحل نمو الطفل، فأبحاث بياجييه أُجْرِيَت على أطفال عاشوا في سويسرا في القرن العشرين، ثم عُمِّمَت نتائجها على أطفال العالم، ولعمري لو أن بياجييه جاء إلى الكويت قبل النفط لوجد أطفالها يمرّون بمراحل نمو مختلفة عن أقرانهم السويسريين، كيف لا، وهؤلاء أطفالٌ يغيب آباؤهم في البحر شهوراً تاركين أسرتهم برعاية «رجل البيت» الذي هو طفلٌ في عرفنا الحالي، وهذا الطفل الرجل يمرُّ بخبرات حياتية تجعل مسار نموه المعرفي والوجداني والمهاري مختلفاً تماماً عن الطفل السويسري.

وكذلك الحال مع ما أفرزته المدرسة السلوكية في علم النفس من أفكار تربوية، فقد نظرت هذه المدرسة إلى التعليم على أنه عملية إشراط، كالذي حدث مع كلب العالم الروسي بافلوف، فأخذت تؤكد أن التعليم إنما هو تدريب للمتعلم على استجاباتٍ محدّدةٍ عند التعرض لمثيرات معينة، وبهذا صار الطالب مطالباً بأن يؤدي نوعين من الاستجابات كي يحظى بالتعزيز الإيجابي الذي حظي به كلب بافلوف، لكن المعزِّز في حال الطالب ليس طعاماً، بل يجيء التعزيز في هيئة الدرجات المرصوصة في الشهادات، أما نوعا الاستجابة التي توصله لنيل مراده فأُولاهما الاستجابات الأكاديمية التي حوَّلت الاختبارات من وسيلة للوقوف على مستوى الطالب وقياس مدى تحقيقه للمهارات واستيعابه للمعارف، إلى غاية توجِّه عمل المعلم وتشغل ذهن الطالب طوال العام الدراسي، فمن الطبيعي والحال كذلك أن يتحول التعليم إلى مجرد تدريب على استجاباتٍ (إجابات نموذجية) يؤديها الطالب حين يتعرَّض لمثيرات مصطنعة (الاختبار)، وهذه المثيرات لا ترتبط بحياته وثقافته وهمومه وآماله، بل هي مشتقة مباشرة من المعرفة الرسمية المراد ملء عقل الطالب بها.

أما النوع الثاني من الاستجابات فهو الاستجابات المؤسسية، المتمثلة في القوانين والأنظمة التي على الطالب أن يراعيها داخل أسوار المدرسة كي يضمن الوصول بسلام إلى يوم الاختبار، ولا شكَّ أن الانضباط ذو أهميةٍ في التربية، لكن الانضباط المفروض على طلاب المدارس انضباطٌ مبهمٌ بالنسبة إليهم، فهم لم يشاركوا في وضع تلك الضوابط، ولا تُشرح لهم أهميتها التربوية، وغير مسموحٍ لهم بمساءلتها ونقدها وتغييرها، إنها ضوابط عليهم أن يلتزموها من دون أن يفهموها، وأن يراعوها من دون أن يعوها، وكلُّ ذلك في سبيل إرضاء المعلِّم والمدرسة لضمان تحقيق الهدف النهائي للتعليم في ذهن الطالب (الشهادة).

فلا غرابة إذا أحس الطالب بالاغتراب في المدرسة، فقد غدت هذه المؤسسة مؤسسة تضغط على الطالب بمناهجها وأنظمتها واختباراتها وشهاداتها، حتى الأنشطة التي من المفترض أن يجد الطالب فيها مساحة من الحرية ليمارس فيها ما يحب، صارت مجرَّد أنشطةٍ شكليةٍ لا يشارك الطالب في التخطيط لها، ولا في تنظيمها، بل لا تنبع من اهتمامات الطلاب، كما أنها محكومة بخطوطٍ حمراء أكثر من تلك الخطوط التي تمتلئ بها شوارع الدول المتحضرة، إنها أنشطة فاقدة للجوهر، وفي أكثر الأحيان تكون وسيلة من وسائل تعزيز المعرفة الرسمية، لذا فإن كثيراً من الطلاب لا يشعرون بقيمة ما يتعلمونه في المدرسة، بل إنهم يجدون في أنفسهم حواجز نفسية تمنعهم من التعامل بجدية مع ما يُفرَض عليهم فيها، ويجدون أنهم لا يمارسون التعلم الحقيقي إلا خارج أسوار هذه المؤسسة.
الوقت حان لكسر أقفال الأدراج واستخراج كنوزها واستبعاد سؤال «ما حال تعليمنا؟»
إن ما قدّمه مشروع المسؤولية التضامنية لإصلاح التعليم، وما أتت به مبادرة «من هنا نبحر» وغيرهما من الدراسات والمشروعات البحثية الكبرى الواصفة لحال تعليمنا، كل ذلك يقدِّم لنا وصفاً دقيقاً لمعظم مشكلات تعليمنا، ولا أعتقد أن مزيداً من الوصف سيجدي، لذا فإن الوقت قد حان للفعل، لقد حان الوقت لكسر أقفال الأدراج، واستخراج ما فيها من كنوز، واستبعاد سؤال «ما حال تعليمنا؟»، لنطرح أسئلة إصلاح التعليم من قبيل «ماذا نريد من التعليم؟»، «كيف نصل إلى ما نريده من التعليم؟».

إن السؤال الأول «ماذا نريد؟» سؤال يفتح المجال لمناقشات فلسفية وسياسية واجتماعية واقتصادية لا بدَّ من خوضها بعمقٍ لنقدِّم إجابة واضحة عنه، ولا أعتقد أن عاقلاً سيرضى بالإجابة الواقعية التي نرصدها في الفعل التربوي الحالي، إذ كيف يرضى من أعطاه الله عقلاً بأن يهدف التعليم إلى نيل شهادةٍ بلا كفاءة ولا علمٍ ولا معرفةٍ ولا مهارةٍ، ليحصل حاملها على وظيفةٍ بلا إنتاج؟ وفي ضوء ذلك جاز أن نسأل أنفسنا: أنريد تعليما يعيد إنتاج المجتمع بعقليته وظروفه الحالية أم نريد تعليما يشجع الأفراد على تغيير المجتمع وعقليته وظروفه؟ أنريد تربية «الله لا يغير علينا» أم تربية «حتى يغيروا ما بأنفسهم»، أنريد تربية المواطن الموالي المطيع أم الإنسان العامل المصلح؟

أما السؤال الثاني، أعني سؤال كيفية تحقيق ما نريد، فهو يضعنا أمام محاكمة واقع ممارساتنا التربوية، وواقع معلمينا الهزيل، وواقع مناهجنا المترهلة، وطرائق قياسنا البالية، فهذه العناصر هي التي أنتجت لنا ذلك الواقع التعيس الذي تفنَّنَت جميع الدراسات في وصفه وصفا دراميا يقترب من الكوميديا السوداء، وأوَّل ما نبدأ به كليّات إعداد المعلمين والكليَّات الرديفة لها، تلك الكليات التي بات من الطبيعي أن تُخَرِّجَ معلمين لا يجيدون أبسط مقدمات العلوم التي يدرسونها، ويجهلون أبسط المبادئ التربوية، كيف يمكن- مثلا- أن يتخرّج معلم اللغة العربية بامتياز في إحدى تلك الكليات ليُصَدمَ به زملاؤه في المدرسة حين يرونه يلحن في كل كلمة ينطقها، ويخطئ في رسم كل كلمة يكتبها، ولا يفهم النحو ولا الصرف ولا يمتلك مهارات تحليل النصوص وفهمها؟

كما أننا محتاجون لإعادة بناء سياسة القبول في الكليات التربوية، فلا يُقْبَلُ الطلاب إلا بعد حصولهم على شهادات من الكليات الرديفة (كلية الشريعة – كلية الآداب – كلية العلوم – كلية العلوم الاجتماعية) وبمعدلات مرتفعة، ثم يلتحقون بكليات التربية ليعدُّوا إعداداً تربويّاً مركَّزاً، ولا يمكن نجاح ذلك إلا بإجراءين، الأول يتمثل في جعل مهنة التعليم جاذبة لذوي الكفاءة بحوافزها المادية والمعنوية، وطاردة لعديمي الكفاءة بإجراءات التعيين العقلانية وآليات القياس والتقويم الفاعلة لا الشكلية، أما الإجراء الثاني فيكون بعدِّ كليةِ التربية من كليات النخبة التي لا تستقبل إلا من كان شغوفاً بهذه المهنة، ومن هو مستعدٌّ لتحمل أعبائها.

إن التربية في أوسع تعريفاتها هي الحياة، وليس من العقل أن نتعامل مع الحياة بمثل هذا التهاون الذي نشهده في واقعنا التربوي، وإذا كان باولو فيريري قد ركَّز على «تربية المقهورين» نتيجة ظروف مجتمعه البرازيلي، فإننا في دولة الريع نحتاج إلى مناقشة «تربية المترفين» الذين أفسدهم فساد أوضاعنا، ونحتاج إلى «تربية الساذجين» الذين سطَّحت ممارساتنا التعليمية عقولهم، إننا نحتاج إلى تربية تستلهم مبدأ «الإنسان خليفة الله في أرضه»، لا مبدأ «الإنسان حيوان مستهلِكٌ ومستهلَك».


* أستاذ المناهج وطرق التدريس بكلية التربية في جامعة الكويت