«أود أن أقرّ أمامكم بأني مررت بظروف كنت فيها وحيدا مع رؤيتي، ولم يكن لي فيها مؤنس، لا بين رجال الأعمال ولا بين المسؤولين ولا بين أهل الرأي»، تلك العبارة كانت ضمن مقالة كتبها الراحل محمد الشارخ، في مجلة فكر وفن المغربية، وقد خصصها للحديث عن مبادرته في إنتاج تكنولوجيا عربية، وأضاف فيها: «كأنما القنوط المعشش أصبح يحجبنا عن ذواتنا وعن قدراتنا، فيشلّ فينا إرادة العمل وروح الإقدام التي وصلت بأجدادنا إلى غرب الصين شرقاً وشواطئ الأطلسي غرباً، وجعلت شمس العرب تسطع في أربع رياح الأرض».

تعريب الكمبيوتر

لم يكن الراحل محمد الشارخ وحيداً فقط في «تعريب الكمبيوتر»، وبشكل أدق «تطويع الحاسب الآلي لخدمة اللغة العربية»، بل كان وحيداً أيضاً ومتفرداً في حفظ تراث «الكلمة» وحفظ الذاكرة الفكرية والثقافية، فحينما بدأ الشارخ مشروعه هذا، هل كان يحمل مبادرة أولى من نوعها؟ في الواقع كانت هناك مجلات ثقافية تعمل على تحميل أرشيفها من الأعداد السابقة على شبكة الإنترنت، مثل مجلة العربي الكويتية، ولكن حينما عمد الشارخ إلى إنشاء أرشيف للمجلات الثقافية والأدبية العربية، وجعله متاحاً على الإنترنت، مجاناً، لملايين الباحثين والمثقفين والمهتمين، فقد أراد أن تخرج المجلات العربية القديمة من كهوف الخزن إلى عالم الضوء، وحمايتها من عوامل التعرية وتقادُم الزمن، فضلاً عن إنقاذها من الشتات والضياع، وتحويل صفحاتها إلى صفحات إلكترونية.

Ad

يمكن القول باطمئنان إن مبادرة الشارخ لا تشبه غيرها، خصوصاً أنها مبادرة ذاتية وشخصية لا تعتمد على حكومات، ولا ترعاها مؤسسات كما هو مطلوب لمثل تلك الطموحات الكبرى والمشاريع النهضوية، بل إننا نجد بعض المراقبين والمؤرخين يضعون مشروع الشارخ على مسافة متقاربة من مبادرات رقمنة عربية لها قيمتها في مجال الأرشفة، مثل مبادرة «الذخيرة العربية» التي بدأت عام 2007 بهدف إنشاء بنك آلي من الكتب باللغة العربية في شتى المجالات (لا تتوافر لدينا حتى الوقت الراهن إحصاءات رسمية عنها) وهناك أيضاً مشروع رقمنة وحفظ وتوفير الدخول المفتوح لمجموعة واسعة من كتب عربية في مواضيع الأدب والفلسفة والقانون والدين وغيرها، والذي يتم بين جامعة نيويورك ومؤسسات أخرى.

توثيق الذاكرة الفكرية والثقافية

في شهر يونيو من كل عام، يأتي علينا اليوم العالمي للأرشفة، وفق ما أقره المجلس الدولي للأرشيف الذي أسس بدعم من اليونسكو (المنظمة الأممية المعنية بالتربية والعلوم والثقافة) بهدف تشجيع التعاون الدولي بين المؤسسات الأرشيفية وتحسين ممارساتها ونشر ثقافة تسجيل الوثائق وإبراز أهميتها في تعزيز الهوية الوطنية وفي حماية التراث الفكري الذي تحتويه الوثائق والسجلات والمجلات.

ولعل هذا الاهتمام يبين لنا مدى أهمية الأرشفة وتوفير الفهارس والمسؤولية التي تضطلع بها الحكومات والمؤسسات الوطنية تجاه ذلك.. باختصار يمكن القول إن الأرشفة من أهم أدوات حفظ موروثنا الثقافي والمعرفي، فهي تتيح للمجتمعات والحضارات أن تحصل على سجل لتاريخها وثقافتها، وتوفر مصدراً ثرياً للمعرفة والبحث والتعلم.

في 2008 كانت الفكرة

في عام 2005، أراد الشارخ أن يتجنب العمل اليومي والإداري، فأوكل إدارة صخر ومشاريعها إلى ابنه الأكبر فهد، وهو الذي رافق وشارك والده في رحلة عملية مدهشة، فواصل الشارخ الابن المسيرة بنفس الشغف والاهتمام.. ورغم هذا التقاعد، فإن محمد الشارخ، وهو الأديب والمثقف، لم يتوقف عن الإسهام في إثراء الحضارة العربية والإسلامية، وهو الذي صنع مبادرات مؤثرة وفائقة الأهمية، مثل تطوير تطبيق للقرآن الكريم، وموسوعة الفقه الإسلامي، وكتب الحديث التسعة باللغة الإنكليزية، والمعجم الإلكتروني، ومشروع «كتاب في جريدة»، بالتعاون مع «اليونسكو»، ومشروع تحديث أرشيف المعلومات الإسلامية الذي يضم، بالإضافة للقرآن الكريم موسوعة الحديث الشريف، وقواعد معلومات إسلامية أخرى، ومشروع قاموس عربي/ عربي.

«المقتطف» أقدم المجلات التي يضمها أرشيف الشارخ... صدرت عام 1876 ومما يضمه الأرشيف صفحات من مجلة «الغاوون» التي كانت تصدر من بيروت وتُعنى بالشعر والنقد

صاحب هذه الإنجازات المبتكرة لم يكن التقاعد يوقفه عن إثراء الحضارة العربية، فكان أن أطلق مبادرته المهمة التي بدأ التفكير فيها والبدء بتنفيذها عام 2008، وكان العمل آنذاك كجزء من مشروع مجلة، وبعد عدة سنوات تم العمل بشكل منفصل، وبناء أرشيف الشارخ للمجلات الأدبية والثقافية العربية، ليضم ما نشر منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى عام 2010.

وقد أعدت هذه المبادرة ضمن المبادرات الثقافية الكبرى التي يصعب على مؤسسات حكومية عريقة الوفاء بها، بل إننا نتابع من خلالها الشارخ وهو ينفذ مشروعاً غير مربح وي كلفة عالية، هذا في الوقت الذي لم يكن صاحب «صخر» أغنى أغنياء المنطقة كي يصرف على مثل هذا المشروع، ولكن إيمانه بأهميته دفعه للمغامرة وصرف نحو 8 سنوات في الجمع والفهرسة والتحول الإلكتروني.

مخزون ثقافي عربي

وهو يقول عن ذلك: «المجلات تسبق إعداد الكتاب، لأنّ أغلب المفكرين ينشرون أبحاثهم ودراساتهم في المجلات، وبعد سنوات يطوّرونها إلى كتاب، ولذلك إذا أردنا أن نعرف كيف كان العرب يفكرون في القرنين الماضيين من ثقافتهم، فعلينا أن نعيد إحياء ونشر المجلات الثقافية والأدبية، لكونها تمثّل مخزوناً ثقافياً عربياً، ليس فقط لأنها تضم مقالات رواد الحركة الفكرية والأدبية العرب في عصر النهضة، ولكنها كانت مسرحاً للحراك الثقافي والأدبي، ومؤشراً على مسار الوعي الفكري آنذاك، حيث كانت الصحف والمجلات ميداناً لحركة النشر الأدبي والفكري في أهم حواضر الثقافة العربية، خصوصاً مصر، من بينها مجلة المقتطف التي تُعدّ من أقدم المجلات التي يضمها أرشيف الشارخ، وقد صدرت بين عامَي 1876 و1952، وتُعرف بأنها مجلة شامية - مصرية أنشأها في الشام يعقوب صروف وفارس نمر، قبل أن تنتقل إلى القاهرة، وكانت تكتب على صدرصفحاتها أنها مجلة علمية صناعية زراعية، وبعد أن انتقلت من بيروت بدأ إصدارها المنتظم في القاهرة سنة 1888، ومجلة الهلال التي صدرت عن دار الهلال في 1 سبتمبر عام 1892، وترأس تحريرها جرجي زيدان، وهي تعد أول مجلة ثقافية شهرية عربية ومازالت تصدر حتى اليوم، وجريدة الأستاذ، وهي جريدة علمية تهذيبية فكاهية أسبوعية أصدرها خطيب الثورة العرابية عبدالله النديم في 1892، ونشر عدها الأول في 24 أغسطس من عام التأسيس، ومجلة الرسالة لأحمد حسن الزيات، وصدرت عام 1933، وكتب فيها رموز الأدب العربي، أمثال طه حسين، ومصطفى صادق الرافعي، وزكي نجيب محمود، وعباس العقاد، وأحمد أمين، ومحمود محمد شاكر، وأبو القاسم الشابي... وغير ذلك من أمهات المجلات.

صورة من الموقع

ويقول الشارخ أيضاً: «في هذا العصر يوجد العديد من المواقع تخزّن الكتب الثقافية العربية، ويمكن استرجاعها، ولكن لا يوجد موقع مشابه للمجلات، وذلك لأن نشر مجموعة كتب هو أسهل بكثير من الحصول على مجموعة مجلات من عقود مختلفة، وقد أردنا من نشر المجلات الحديثة أيضاً أن يطّلع الإنسان العربي في صفاقس على ما يُكتب في بغداد، ومن في حلب يعرف ما يكتب في الكويت.. وهكذا».

البدايات الصعبة

في البداية كان السؤال الأكثر إلحاحاً، كيف يتم جمع تلك المجلات؟ ومن أين؟ خصوصاً أن الشارخ لم يرغب في أن يكتفي بأرشفة عناوين المجلات وفهارسها، لكنّه عزم على تصوير صفحاتها، ونشرها مثلما نُشرت ورقاً وإتاحتها على الإنترنت بعد فهرستها، مع خاصية البحث بالعديد من العناوين مثل: اسم المجلة، أو المقال، أو اسم الكاتب... إلخ.

من يعرف صعوبة ذلك هم مَن صرفوا الوقت والجهد للبحث عن مقالٍ نُشر في مجلة صدرت في القرن الـ 19، أو بداية القرن الـ 20 كـ «المقتطف»، و«المشرق»، و«لغة العرب»، ومن تشككوا في بلوغ الشارخ أهدافه هم من أتعبهم البحث عن مقال طواه النسيان وطوى كاتبه البين، ومن أدركوا حجم معاناة التفتيش بين تلال من المجلات في دهاليز مكتبات لم تصدر فهارس كاشفة لمحتوياتها من الدوريات، من استصعب المبادرة واستعظمها ووصف الشارخ بأنه يطلب المستحيل هو من ذهب وقته وبحثه دون أن يصل إلى ضالته.

أمهات المجلات

لم يتوقف الشارخ أمام التحديات طويلاً، فسارع بتعيين عدد كبير من العاملين في 19 دولة عربية وغير عربية لجمع ونسخ أمهات المجلات العربية القديمة والحديثة، بل إن الشارخ بنفسه زار العديد من الجامعات والمؤسسات الثقافية والأدبية ومراكز التوثيق من أجل الحصول على مبتغاه، كما سعى للحصول على ما يتوافر لدى الناس، واتصل بالعديد من الأصدقاء في مدن متباعدة، مثل تونس والكوفة في العراق وحلب في الشام، وفي غيرها من العواصم العربية والأجنبية نحو عشر سنوات لمساعدته في البحث والحصول على أعداد المجلات، سواء بالشراء بمبالغ باهظة أو الاستعارة نظير مبالغ كبيرة، وبعضها كان من خلال استعارات مجانية من أصدقائه ممن أعجبوا بمبادرته وشجعوها وإن استعظموا تنفيذها، وقد أثمرت هذه الجهود عن الحصول على أعداد مدهشة ونادرة من تلك التي تستحق الحفظ من: مصر، والعراق، ولبنان، والمغرب، وتونس، والكويت، وسورية، وقطر، والسعودية، والجزائر، واليمن، وليبيا، والبحرين، وفلسطين، والأُردن، وأميركا، وإنكلترا، والهند، وألمانيا.

الرقمنة

لم يكتف الشارخ بجمع المجلات ونسخها، بل قام بتعيين فريق فني عالي المستوى وفي تخصصات دقيقة، أخذوا في معالجة صفحات المجلات وتصنيفها وفهرستها وتحويلها إلى نسخ «Digital»، ومن ثم بناء نظام إلكتروني دقيق يمكن من خلاله البحث والاسترجاع، والوصول خلال لحظات إلى المقال الذي تريد والكاتب الذي ترغب، بالعنوان والموضوع والمضمون.

شكّل ذلك دون شك جهدا استثنائيا وكبيرا تمكّن الشارخ من خلاله ليس فقط من الحفاظ على التراث الثقافي العربي، وإنما جعله متاحاً لملايين الباحثين والمثقفين العرب.

قصيدة لبشارة الخوري (الأخطل الصغير) يهديها أرشيف محمد الشارخ إلى قرائه

قصيدة «هدية رأس السنة» *

جذبتني يوم الخميس وقالت

بعد يومين.. قلت إني أدري

بعد يومين يقبل العيد.. قالت

والهدايا بين الأحبة تجري

قلت ذي عادة.. فقالت: وهل

تفكر فينا؟ أجبت: أنت بفكري

سوف أهدي إليك من خالص

الجوهر عقداً مرصعاً بالدر

سوف أهدي إليك قرطاً ثميناً

وبروشاً مذهّباً للصدر

سوف آتيك بالخواتم عشراً

تزدهي منك في أصابع عشر

سوف.. قف! قالت الفتاة وقد

مالت بغصن يزهو بطلعة بدر

مازح أنت، أو تقول إذن من

أي أرض غنمت أو أي بحر؟

فتبسمتُ، ثم ملتُ قليلا

نحوها والهوى يشد بأزري

وبلا إذن قد نثرتُ بأذنيها

كلاماً كأنه نثر زهر

إنما هذه اللآلي.. ولا أنكر

يا هند من خزائن شعري

عند ذا افترَّ ثغرها، ثم قالت

إن هذا اللسان آلة سحر

* (مصر... مجلة الزهور - العدد 9/1 يناير 1913)

نشرت على صفحة الشارخ على «فيسبوك» 31/ 12/2020

لغة الأرقام

إذا كانت الأرقام هي الأقدر على النطق وأقرب إلى تقديم إطار يقترب من الدقة، فإن شهادتها تبين حجم المنجز الحضاري الذي صنعه الشارخ بهذا الأرشيف المعرفي الضخم، وتقول الأرقام إن:

• 16 عاماً استمر العمل في أرشيف الشارخ، منذ انطلاق الفكرة، ومازال العمل متدفقاً.

• يضم أرشيف الشارخ (الآن) 15.865 عددا من أعداد 274 مجلة.

• عدد المقالات بالأرشيف 326.631 مقالا.

• عدد الصفحات 2.100 مليون صفحة.

• عدد الكتاب العرب والأجانب أكثر من 52 ألف كاتب.

• «المقتطف» التي صدرت عام 1876 هي أقدم المجلات التي يضمها أرشيف الشارخ.

والعمل جار ومتصل لإضافة المزيد والمزيد من المجلات والأعداد والمقالات والكتّاب، لذلك نجد أن الأرشيف يضم في الوقت الحالي المجلات التي صدرت حتى عام 2019، بزياد 9 سنوات عن الفترة التي تحددت عند انطلاق الفكرة (2010).

أرشيف معرفي ضخم

حينما أتاح الشارخ هذا الأرشيف المعرفي الضخم، والذي حمل اسمه، على الإنترنت دون مقابل، كان يعتبر أن مثل هذه المبادرات - التي تجمع بين المعرفة والتطور التكنولوجي - هي السبيل نحو النهضة واللحاق بركْب الأمم المتقدمة، وأن أهميتها لا تقل أهمية عن الأمن الغذائي والعسكري، وقد ذكر في أكثر من مناسبة أن هدفه من هذا المشروع هو الحفاظ على الذاكرة العربية الثقافية، وتسهيل مهمة الدارسين والباحثين والمؤرخين وطلبة الدراسات العليا.

أرشيف الشارخ الثقافي العظيم لا يوفّر فقط ذخيرة متنوعة ومتعددة من المقالات والدراسات لعمالقة الثقافة العرب وغيرهم، بل إنه يفتح المجال ويثير الحماس أمام مبادرات أخرى تغني الأرشيف الثقافي العربي.

ليس هذا فقط، بل إن «أرشيف الشارخ» لربما يجعلنا ننظر خجلاً إلى ما آل إليه واقع الكتابة وأمانة البحث، فهو يتيح لنا أن نقرأ بحثاً لا يتعدى ثلاث صفحات يلحق به صفحتان تضم المصادر والمراجع، كما أنه يكشف لنا مدى ما اعترى حرفة الكتابة في العصر الحالي من وهن وفقدان الكثير منها للتقاليد الأدبية والنقدية الرصينة، مقارنة بما كانت عليه في الأزمنة الغابرة.

وصية الشارخ

في حديث له مع منصة إعلامية يقول الشارخ: «من سار على الدرب وصل، وإن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، والعلم عبارة عن سلسلة يجب ألا تنقطع.. وإني آمل من الجيل الصاعد من أبناء هذا الوطن الاستمرار في طريق العلم والاجتهاد فيه، لأنه هو السبيل الأوحد في تطور الأمم واللحاق بركب الدول المتقدمة».

همسة

كان هذا العرض وجها آخر لإسهامات محمد الشارخ الحضارية، واستعراضاً لأحد أدوار «صخر» الثقافية المتواصلة للمستقبل.. ونحن نتناول ذلك ندعو أن يكون الاحتفال بيوم الأرشيف العالمي في شهر يونيو المقبل مناسبة لأن يتم تكريم اسم الشارخ من قبل إحدى المؤسسات المعنية تقديراً لهذا المنجز الثقافي الغني.