قال تقرير صادر عن بنك الكويت الوطني، إن مصر بدأت في مارس الماضي تطبيق عدد من الإصلاحات التي طال انتظارها لتعزيز استقرار الاقتصاد الكلي، مما أدى الى خفض قيمة الجنيه المصري ورفع أسعار الفائدة بشكل حاد.

وجاءت هذه التحركات الجريئة بعد فترة وجيزة من تمكّن الحكومة من تأمين احتياطي كبير من العملات الأجنبية من خلال إبرامها لصفقة استثمارية ضخمة بقيمة 35 مليار دولار مع الإمارات لتطوير منطقة رأس الحكمة. ومنذ ذلك الحين، استمرت سلسلة الأخبار الإيجابية التي تضمنت موافقة صندوق النقد الدولي على تقديم قرض لمصر بقيمة 8 مليارات دولار (كانت قيمته 3 مليارات دولار سابقاً)، إلى جانب موافقة البنك الدولي على قرض جديد بقيمة 6 مليارات دولار، وتقديم الاتحاد الأوروبي 8 مليارات دولار ما بين قروض واستثمارات.

Ad

وساهمت تلك الاتفاقيات في الحد من مخاوف السوق من وقوع حدث ائتماني في مصر، وذلك في ظل تحسن مقاييس المخاطر الخارجية، ما يعكس نظرة أكثر إيجابية بين المستثمرين.

وعلى المدى القريب، سيواجه الاقتصاد المزيد من الرياح المعاكسة، إذ إن خفض قيمة العملة المحلية يساهم في استمرار ارتفاع معدلات التضخم وأسعار الفائدة وتصعيد الضغوط على إنفاق الأسر والشركات، إلا أن الشهور القليلة المقبلة ستكون لها أهمية بارزة في تأكيد قدرة مصر على ترسيخ الاستقرار المالي والاقتصاد الكلي واستعادة ثقة السوق، ما يضع الأسس اللازمة لانتعاش اقتصادي مستدام في عام 2025.

ونرى أنه لكي يصل النمو الاقتصادي إلى مستويات +6 في المئة على أساس مستدام، يجب على الحكومة الالتزام بالإصلاحات الهيكلية الرئيسية الأخرى ومواصلة إحراز تقدم مستمر، بما في ذلك الحد من الاستثمارات العامة (من كل من الكيانات الحكومية وشبه الحكومية)، وإعطاء مساحة أكبر للقطاع الخاص لدفع عجلة النمو.

وقد تشمل الانطلاقة الجيدة الاستعانة بالمزيد من الوزراء التكنوقراط في أي تعديل وزاري مقبل، بعد بدء الولاية الرئاسية الثالثة للرئيس عبدالفتاح السيسي في أبريل والتي ستستمر حتى عام 2030.

تراجع النمو

كما كان متوقعاً، واصل النمو الاقتصادي مساره الهبوطي في السنة المالية 2023/2024 (المنتهية في يونيو 2024) في ظل تباطؤ النمو بوتيرة حادة إلى 2.5 في المئة بالنصف الأول من العام، مقابل 4.2 في المئة في النصف الأول من العام السابق. وقد يقترب معدل النمو للسنة المالية 2023/2024 من 2.5 في المئة، فيما يعد أقل من توقعات الحكومة البالغة 3.5 في المئة وتوقعاتنا المبدئية البالغة 3 في المئة.

واستمر ارتفاع التكاليف والقيود المفروضة على الواردات وتصاعد حالة عدم اليقين على مدار السنة المالية 2023/2024، مما أثّر سلباً على الاستهلاك الخاص. ويظهر تحليل البيانات المتاحة حتى الربع الأول من السنة المالية 2023/2024 ثبات معدلات الاستهلاك الخاص عند صفر في المئة على أساس سنوي مقابل 3.3 في المئة في الربع السابق، رغم أن ارتفاع قاعدة الأساس للربع نفسه من العام السابق (وصل النمو إلى 5 في المئة) لعب دوراً في ذلك.

وكان صافي الصادرات من أكبر العوامل التي ساهمت في ذلك النمو، إذ سجل رصيداً إيجابياً قدره 5 مليارات جنيه مقابل -70 مليار جنيه في العام السابق، إلا أن القيود المفروضة على الواردات كانت المحرك الرئيسي لهذا التغيير، وبمجرد أن تبدأ الواردات في التعافي خلال الفترة المقبلة، من المرجح أن يتلاشى صافي ميزان الصادرات الإيجابي.

من جهة أخرى، شهد الاستهلاك الحكومي نمواً بنسبة 11 في المئة على أساس سنوي، بينما انكمشت الاستثمارات بنسبة 16 في المئة.

وبالنسبة للنظرة المستقبلية، من المتوقع أن تتيسر عملية حصول الشركات على العملات الأجنبية، ما يعزز من سلاسة عملية الاستيراد وتحسن دورة الإنتاج – إلا أن الانتعاش المتوقع للطلب قد يستغرق بضعة أشهر، إذ من المتوقع أن يبقى التضخم مرتفعاً على المدى القريب بعد انخفاض قيمة الجنيه.

عجز الحساب الجاريتقلص العجز في تجارة السلع بنحو 1.2 مليار دولار في الربع الأول من السنة المالية 2023/2024 إلى 8 مليارات دولار (1.9 في المئة من الناتج)، بدعم رئيسي من انخفاض الواردات بنسبة 15 في المئة على أساس سنوي. وفي الوقت ذاته، اتسع الفائض في جانب الخدمات بنسبة 28 في المئة ليصل إلى 5.2 مليارات دولار على خلفية ارتفاع عائدات السياحة وقناة السويس خلال تلك الفترة (لم تبدأ الاضطرابات التي تعرضت لها قناة السويس إلا مؤخراً).

وبصفة عامة، تقلص عجز الحساب الجاري بنسبة 12 في المئة على أساس سنوي ليصل إلى 2.8 مليار دولار خلال هذا الربع. ونتوقع اتجاهات مماثلة خلال الربعين الثاني والثالث في ظل ضغوط صرف العملات الأجنبية التي تحد من تدفق حوالات العاملين واستثمارات الحافظة إلى سوق الدَّين بالعملة المحلية، إلى جانب الصادرات، فيما نتوقع أن يصل عجز الحساب الجاري للعام كله إلى 11.5 مليار دولار (3.2 في المئة من الناتج).

أوضاع التمويل الخارجي

تغيرت صورة التمويل الخارجي للعامين/ ثلاثة أعوام القادمة بشكل إيجابي بفضل التغييرات التي طرأت على السياسات، إلى جانب اتفاقيات التمويل التي أُبرمت في الأسابيع الأخيرة. وتبلغ قيمة هذه الأخيرة مجتمعة 59 مليار دولار (48 مليار دولار بعد خصم قيمة الودائع الإماراتية المودعة لدى البنك المركزي المصري التي تم تحويلها إلى استثمار أجنبي مباشر) على مدى السنوات المقبلة (حتى السنة المالية 2025/2026)، والتي من المقرر أن يتم تسليم معظمها خلال العام الحالي.

ومن المقرر تسليم قيمة صفقة رأس الحكمة المبرمة مع الإمارات (35 مليار دولار) خلال السنة المالية الحالية، إذ تم تسليم 22 مليار دولار بالفعل والباقي في مايو 2024. وسيتم صرف القيمة المتفق عليها ضمن بقية الاتفاقيات - من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي - على مدى الأعوام الثلاثة القادمة (7-8 مليارات دولار سنوياً في المتوسط). وبالإضافة إلى تمويل التدفقات التجارية المنتظمة، سيتم استخدام تلك الأموال للتخلص من الواردات المتراكمة، وسداد المستحقات لشركات الطاقة الدولية، وخفض صافي الالتزامات الأجنبية في النظام المصرفي، وسداد أي ديون خارجية مستحقة، وربما رفع الاحتياطيات الرسمية.

35% التضخم

تباطأت وتيرة التضخم إلى 33.3 في المئة على أساس سنوي في مارس بعد أن قفز إلى 35.3 في المئة (11 في المئة على أساس شهري) في فبراير. وقد يُعزى ارتفاع معدلات التضخم في فبراير بصفة رئيسية لضعف الجنيه المصري الشديد في السوق الموازية بعد أن وصل إلى أعلى مستوياته على الإطلاق عند 70 جنيهاً مصرياً للدولار، والذي تم عكسه لاحقاً بعد خفض قيمة الجنيه المصري في مارس نظراً لتحسن وفرة الدولار في الأسواق. وبلغ متوسط التضخم 4.9 في المئة على أساس شهري خلال الفترة الممتدة بين شهري يناير ومارس، فيما يعد أعلى بكثير من 1.2 في المئة على أساس شهري في الربع السابق.

أسعار الفائدة

ورفع البنك المركزي المصري أسعار الفائدة بنسبة 8 في المئة في الربع الأول من عام 2024 (2 في المئة في فبراير ثم 6 في المئة في مارس) ليصل معدل الخصم إلى 27.75 في المئة، في حين وصل متوسط عوائد أذون الخزانة لمدة عام إلى أعلى مستوياته على الإطلاق عند 32 في المئة خلال الأسبوع الأول من مارس، قبل أن ينخفض مرة أخرى إلى 25.5 في المئة على خلفية تزايد الطلب على أدوات الدَّين بالعملة المحلية من المستثمرين الأجانب.

وكان رفع سعر الفائدة بنسبة 6 في المئة من الخطوات التي تجاوزت كل التوقعات، إلا أنها لم تكن كافية لتوفير عائد حقيقي إيجابي على المدى القصير. إذ بلغت العوائد الحقيقية، باستخدام سعر الخصم، -6 في المئة في مارس وستبقى سلبية رغم إمكانية تحسنها بنهاية العام.

وبما أننا نتوقع أن يبقى التضخم مرتفعاً على مدار الأشهر المقبلة، لذا لا نستبعد احتمال قيام البنك المركزي المصري برفع أسعار الفائدة مرة أخرى رغم أن معدل الزيادة سيكون أقل بكثير (1-2 في المئة) من سابقتها. وعلى الرغم من ذلك، فإنه في ظل تلاشي تأثيرات خفض قيمة الجنيه المصري وظهور مؤشرات دالة على تراجع الضغوط التضخمية، نعتقد أنه قد تظهر فرصة مواتية للبنك المركزي لخفض أسعار الفائدة بنهاية العام الحالي.

نمو الائتمان الخاصوتعود أحدث البيانات المتاحة للائتمان إلى شهر فبراير 2024، وبالتالي لا تعكس تأثير رفع سعر الفائدة في مارس والتغييرات الأخرى التي طرأت على السياسات النقدية. وتباطأت وتيرة الائتمان المقدم للقطاع الخاص بشكل كبير إلى 16.8 في المئة على أساس سنوي مقابل مستويات الذروة التي وصلت في فبراير 2023 إلى 35 في المئة.

واستقر نمو الائتمان الشخصي بوتيرة أفضل عند 24 في المئة على أساس سنوي مقابل 25 في المئة على أساس سنوي في فبراير 2023. وعلى أساس القيمة الحقيقية، كان الائتمان لكل من شركات القطاع الخاص (-18 في المئة) والشخصي (-11 في المئة) سلبياً جداً.

اتساع عجز المالية

وأصدرت وزارة المالية بيانات مالية لأول 8 أشهر (يوليو - فبراير) من السنة المالية 2023/2024 والتي أظهرت اتساع العجز بشكل كبير إلى 6.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي مقابل 5.0 في المئة في العام السابق، الأمر الذي يشير إلى أن العجز للعام كله سيتراوح بين 8 في المئة إلى 8.5 في المئة تقريباً من الناتج، ما يعد أعلى من التوقعات الواردة بنسبة 7 في المئة في الموازنة، إلا أن الفائض الأولي (أي باستثناء مدفوعات فوائد الدَّين) تحسن إلى 1.4 في المئة من الناتج مقابل 0.4 في المئة العام السابق. ونتوقع أن يصل الفائض الأولي إلى نسبة 2.2 في المئة من الناتج للعام كله، ما يعد أقل قليلاً فقط من الرقم المدرج في موازنة الحكومة البالغ 2.5 في المئة.