• ماذا يمثل لك مهندس البهجة، فؤاد المهندس، كمنجز إبداعي؟

- أشكرك على طرح كتابي «مهندس البهجة» باعتباره في جانب منه عملاً إبداعياً. في هذا الكتاب أحلل دور فؤاد المهندس كمثال على الإنتاج الثقافي الوطني في مجال الكوميديا يسهم في الدعاية للنظام بشكل غير مباشر، لكن يكشف بشكل لا واع عن تناقضات النظام بين خطابه التحرري المعادي للاستعمار، وممارساته المضيقة على الحريات وافتتانه بالقوى الغربية المهيمنة.

Ad

جانب الإبداع هنا هو مخالفة السائد في الدراسات الثقافية، فالكتاب ليس سيرة حياة المهندس ولا مجرد تحليل لبعض أفلامه، ولا عملية ربط آلي بين التاريخ والفن، بل هو مقاربة متعددة المنهجيات والتناولات تركز على دور اللاوعي، وكأن «مهندس البهجة» في مجال الدراسات الثقافية هو معادل - بمعنى ما - للقصيدة السوريالية: في الحالين يلعب تأمل اللاوعي دوراً محورياً في الكتابة.

• وماذا عن ديوانك «كشك اعتماد»؟

- يحمل ديوان «كشك اعتماد» الجزء الأول من سيرتي الذاتية شعراً، وأتمنى أن أواصل التجربة في الديوان القادم. في «كشك اعتماد» حكيت طفولتي وفترة المدرسة، وتأملت تاريخ الطبقة الوسطى المصرية في الستينيات والسبعينيات بالشعر. مشروعي القادم بإذن الله يواصل المنهج نفسه فيما يخص فترة الجامعة. أقدّم شهادتي الشعرية عن الثمانينيات في الجامعة المصرية، وربما يصلح شعار التظاهرات الطلابية وقتها ملخصاً - لا عنواناً - لتلك الحقبة: «يا حرية فينك، فينك؟». فمرحلة الجامعة هي دائما لحظة سعي الشباب إلى تحقيق أقصى درجات التحرر الشخصي والمجتمعي والإنساني.

• القصيدة قد تشرق في أي لحظة، وعلى الشاعر أن يكون مستعدّاً لها، وإِلاَّ فإِنَّها قد ترحل سريعاً إِنْ لم تجده جاهزاً لاستقبالها.. هل يستطيع الشاعر أن يغيّر طبائع القصيدة؟

- ما يعذبني أثناء عملية الكتابة هو تلك اللحظة - عادة ما تكون قبل استغراقي في السبات - حيث يبدو لي أن قصيدة تطرأ على بالي، لكنني أغوص في بلاد النوم وأنساها، أو - وهو الأكثر إيلاما - أتذكر منها ما يكفي لأشعر أنها ضاعت ولم يبق منها إلا نسخة ضعيفة معطوبة. ولهذا أضع ورقة وقلماً في حقيبة يدي على الدوام لأكتب ما يطرأ عليّ، حتى لو كنت في الحافلة.

أحيانا قليلة، أستطيع أن أستعيد تلك القصيدة، لكن لا تعود على حالها الأولى، فالذاكرة هي التي تعدّل وتبدّل في شكل القصيدة بين لحظة بزوغها في الذهن حتى لحظة تجليها و«حبسها» على الورق.

أما عن الشاعر وهو يغيّر طبائع القصيدة، ففي تجربتي يحدث أن تطرأ لي القصيدة بالعامية ثم أعيد كتابتها بالفصحى. ربما كانت إعادة صياغة أفكار كتبتها أولا بالفرنسية أو بالعامية و«ترجمتها» إلى الفصحى المحدثة المبسطة هو أكبر تغيير أحدثه في طبائع القصيدة، وكثيراً ما فعلت ذلك في قصائد ديواني الثاني «التي».

غلاف كتاب قمر مفاجئ - غلاف ديوان مهندس البهجة

في مجموعاتك الشعرية: «الموتى لا يستهلكون»، «قمر مفاجئ» و«التى»، متى تكون الظواهر الفنية مؤثرة داخل النسق الشعري ومتى تكون عبئاً عليه؟

في قصائدي التي ألاعب فيها اللغة أو أستدعي عبارات مأثورة أو أشعاراً تراثية أستشهد بها أو أعارضها أو أسخر منها، قد تبدو اللعبة مصطنعة، فهذه طبيعة اللعبة، لكنها أيضاً - بمعنى ما - طبيعة الشعر نفسه. فالشعر صنعة، وهو - بالمناسبة - باقٍ ولا يُقارن بالرواية، لكنني لا ألزم نفسي بلعبة تثقل كاهل القصيدة إلا من باب اللعب والاستمتاع، لا من باب الاستعراض أو التكلف.

كما أن قراءاتي وتكويني الأكاديمي يؤثران في قصائدي، على سبيل المثال في تواتر موضوع التاريخ والتأمل في تقلباته. ربما كانت تلك الثقافة هي أيضاً السبب في كتابتي لقصائد تتأمل في ماهية الشعر وتعريفه في صدر معظم دواويني، وكأنها إطار نظري للدواوين، فيها تأكيد على أهمية عنصر المفاجأة، وتجنّب الافتعال في اختيار الألفاظ والتقليل من المجاز.

• لعل ما يلفت الانتباه في تجربتك الشعرية انفتاحها على العديد من الأنواع الشعرية (القصيدة العمودية، قصيدة التفعيلة، القصيدة المدوّرة، قصيدة النثر، إلى النصّ المفتوح)... ما سرّ هذه الانتقالات؟

- جماليا، أتراوح بين قصائد نثر «كما يقول الكتاب»، قصائد تفاصيل يومية، وبين قصائد تداعب التراث؛ سواء باستخدام التفعيلة، أو بمعارضة عبارات أو أبيات تراثية شهيرة، أو بكتابة بيتين على وزن خليلي. ربما دفعتني الرغبة في التجريب والبحث عن التجديد إلى هذه الألعاب. لكن بالأساس هي ألعاب ناجمة عن نشأتي وثقافتي الشخصية. كان جدّي يعلمني أبياتا لشوقي، بل وللطغرائي، منذ كنت في السادسة من عمري. وفي سن التاسعة أو العاشرة كنت أحفظ أبياتا من «ديوان الحماسة» وفقرات من كتاب «الكامل» للمبرد. تشربت هكذا ولعاً بالتراث الشعري القديم وبالشعر الكلاسيكي الحديث، ورغم أن ذائقتي تميل إلى قصيدة التفاصيل اليومية، التي تواضع الكل على تسميتها قصيدة النثر، فإن تمردي على الذائقة الكلاسيكية يتضمن أيضاً تمرداً على السائد، والسائد الآن هو قصيدة التفاصيل أو قصيدة النثر. لذلك، أتمرد على تلك القصيدة باستدعاء التفعيلة أحياناً والاستشهاد بالتراث أو معارضته أو اقتباسه أحياناً أخرى.

أصالة الشعر

• بعضّ المبدعين يرون أن «ترجمة الشّعرِ خيانة» بينما يشدد بعضهم الآخر على ضرورة أن يكون الإِبداعَ الشِّعريَّ عالمياً باعتباره فعلا إِنسانيا.. كشاعر ومترجم ما رأيك؟

- كل ترجمة خيانة، لكنها ملح الأدب، مثلما قد يشكّل الغزل بهارات في العلاقة بين حبيبين يغازل أحدهما شخصاً ثالثاً. سؤالك مهم لأنه يطرح قضية «أصالة» الشعر. يتساءل البعض إن كان يلزم الشعر أن يقتصر على جماليات معيّنة في مجتمع معين تخلق تواصلاً مع ما سبقه من الشعر، أو ربما قطيعة معه، أم أن الشعر ينبغي أن يستلهم جماليات غربية ليبدو متسقاً مع الشعر «العالمي». والحقيقة أن الخيارين ملهمان: هناك قصائد مؤثرة رغم أنها شديدة المحلية، مثلما في المواويل القديمة بالعامية، وهناك قصائد آسرة، لأنها قد تكون مكتوبة بالأوردية مثلاً، وما إن تترجم حتى تبدو مألوفة للأذن العربية، بسبب القرب الثقافي بين عالمي الأردية والعربية على أرضية الثقافة المسلمة. لكن على ذكر الترجمة، تبدو بعض قصائد النثر اليوم، وكأنها مترجمة عن أصل أجنبي. لكن مرجع هذا هو تأثّرنا جميعا كقراء بالشعر الأميركي أو الشعر الغربي بشكل عام مع انتشار الترجمة، لا سيما الترجمة الإلكترونية التي تسهّل قراءة القصائد بلغات قد لا يجيدها القارئ. وبالتالي قد يكتب الشاعر قصيدة بالعربية، لكنها تشي بتأثره بنص غربي قرأه مترجماً. وليست هذه الظاهرة بالضرورة مرادفة للركاكة أو الاستغراب. لكل قصيدة ميزانها ما بين التمرد على اللغة وتحويرها أو ليّ عنقها أحيانا من باب التجديد، وما بين كسر عنق القصيدة ومسخها بحيث تبدو ركيكة، مكتوبة بيد من لا يُحسن «العربية».

• بين القاهرة مسقط رأسك، وعملك أستاذا الدراسات العربية بجامعة يورك في كندا، مسافات شاسعة كيف تعبرها؟

- أقيم نصف العام في تورنتو بشرق كندا، ونصفه بالقاهرة في قلب مصر منذ عامين، وقبل ذلك، كنت طوال ما يزيد على ربع قرن أقضي بالقاهرة شهرا أو شهرين سنوياً. وأعبر المسافة بين المدينتين يومياً بالفكر والمخيلة وعبر الفضاء الافتراضي، كما أعبره بالطائرة متوجها من تورونتو إلى القاهرة وبالعكس مرتين كل عام. والقصيدة في جميع الأحوال هي جسري الأساسي للتواصل مع موطن القلب في مصر أو بكندا. الطائرة ثم البريد الإلكتروني كانا جسرين يسمحان بفتح باب بين عالمين وبتبادل الأخبار أو تجديد التواصل. لكن اليوم مع تعدد وسائل التواصل وتطبيقات الاتصال الصوتي والمرئي، أي بفضل العالم الإلكتروني، تحقق حلم الإنسان القديم أن يكون بكل مكان في آن، والعبور بين شمال إفريقيا وشمال أميركا يتحقق كل لحظة، وكل يوم.