الجيش والجلد

والإعلام يطالعنا بمئات القتلة صباح كل يوم على مدار سبعة أشهر في حرب الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل والغرب الاستعماري على الشعب الفلسطيني في غزة، كردّ فعل لأسر بعض مئات من الجنود والمدنيين الإسرائيليين في السابع من أكتوبر الماضي، الأمر الذي أيقظ ضمير شعوب العالم بأسرها منددا بحرب الإبادة، استعدت من الذاكرة ما فعله الاحتلال البريطاني بأهالي قرية دنشواي الذين قاوموا الاحتلال البريطاني على أرضهم وممتلكاتهم بالحجارة وكان ضباطهم الذين جاسوا هذه الأرض لصيد الحمام في هذه القرية المشهورة بحمامها الجيد، فطاش رصاصهم ليقتل فلاحة مصرية، وخلال مطاردة الأهالي لهم لتسليمهم للعدالة سقط ضابط منهم ميتا قبل أن يصل إلى معسكره وقبل أن يصل إليهم الأهالي.

Ad

كانت الحجارة هي سلاحهم الوحيد، كما كانت الحجارة سلاح المقاومة الفلسطينية قبل أن يكبر أطفالها ويصبحوا أبطال «طوفان الأقصى».

المحاكمة الجائرة

وهي التي عقدت لمحاكمة أهالي القرية وكان أبي، رحمة الله عليه، قد رواها لي في طفولتي، فكانت أول دروس الوطنية التي تعلمتها منه، فقد كان والدي شاهد عيان على هذه المحاكمة، فقد سافر والأستاذ عبدالقادر التوني رئيس تحرير جريدة العلم المصري، وهي من جرائد الحزب الوطني إلى جوار جريدة اللواء لتصوير المحاكمة والمشانق التي كانت قد نصبت قبلها، وكانا صديقين وعضوين في الحزب الوطني (حزب مصطفى كامل).

تشكيل المحكمة

وكان بطرس باشا غالي وزير الحقانية (العدل) قد أصدر قرارا بتشكيل محكمة مخصوصة لمحاكمة المتهمين من أهالي القرية، برئاسته وعضوية المستشار القضائي البريطاني، ووكيل محكمة الاستئناف الأهلية البريطاني، والقائم بأعمال المحاماة والقضاء في جيش الاحتلال، وأحمد فتحي بك زغلول (باشا) رئيس محكمة مصر الابتدائية، وأن يكون انعقادها في شبين الكوم، مركز القرية وكان الطبيب الشرعي الانكليزي الذي انتدبته المحكمة قد أثبت في تقريره أن السبب المباشر لوفاة الضابط الانكليزي هو ضربة الشمس التي أصابته من شدة الحر، وكان قد سبق عقد المحكمة لجلساتها، تعليق المشانق في قرية دنشواي وتمت محاكمة تسعة وخمسين منهم، اثنان وخمسون منهم حوكموا حضوريا، وسبعة غائبون، حيث قضت المحكمة بإعدام أربعة شنقا في القرية ذاتها، وبالأشغال الشاقة المؤبدة لاثنين منهما مؤذن القرية الذي ماتت زوجته قتيلة برصاصة طائشة.

والحكم بعقوبة الحبس على عشرة من أهالي القرية، لمدد تتراوح بين الأشغال الشاقة خمس عشرة سنة، والأشغال الشاقة سبع سنوات، ثلاثة منهم بالحبس سنة واحدة، مع جلد كل منهم خمسين جلدة والحكم بجلد خمسة فلاحين من أهالي القرية خمسين جلدة، وتم تنفيذ حكام الإعدام والجلد علنا في حضور أهالي قرية دنشواي.

حزن الشعب المصري الساكن

وقد وصف القاضي والمفكر ومحرر المرأة في مصر حال الشعب المصري يوم تنفيذ الحكم بقوله «رأيت عند كل شخص تقابلت معه قلبا مجروحا وزورا مخنوقا، ورعشة عصبية بادية في أيديهم وفي أصواتهم، كان الحزن والأسى على جميع الوجوه حزنا ساكنا مستسلما للقوة الغاشمة مختلطا بالدهشة والذهول، الناس يتكلمون بصوت خافت وعبارات متقطعة... كأنما كانت أرواح المشنوقين تطوف في كل مكان، وكأن مصر كلها دار ميت».

الزعيم مصطفى كامل

وكتب الزعيم مصطفى كامل، باعث الحركة الوطنية في مصر ضد الاحتلال، في جريدة لو فيغارو الفرنسية الشهيرة، في عددها الصادر في 11 يوليو سنة 1906، وكان غائبا في باريس وقت المحاكمة يدعو للقضية المصرية، مقالا باللغة الفرنسية تحت عنون «الى الأمة الانكليزية والعالم المتمدن» يصف في المقال جيش الاحتلال، الذي كان ذريعة احتلاله مصر حماية أمنها، بأنه تحول إلى آلة إرهاب، وأن العدل لم يكن مقصودا في هذه المحاكمة، بل الانتقام الفظيع من الأهالي الذين قاموا بالدفاع عن أنفسهم وعن أملاكهم، وبأن العقوبات التي ستوقعها المحكمة ستضرب للناس عبرة هائلة، كما كتبت الصحف المؤيدة للاحتلال.

ولم تلتفت المحكمة لدفاع الفلاحين، بأن الضباط الانكليز هم الذين هاجموهم في ممتلكاتهم وقتلوا إحدى نسائهم، وأن هؤلاء الضباط لم يكونوا يمارسون عملا يدخل في طبيعة وظائفهم، بل كانوا متجردين من صفاتهم الوظيفية، باعتبارهم أفرادا عاديين ومنهم نولن الذي حدد سبب وفاة الضابط بضربة شمس.

وختم مقاله بكلمة قال فيها «إننا نطالب بالعدل والمساواة والحرية، ونطلب دستورا ينقذنا من السلطة المطلقة، ولا شك أنه لا يمكن للعالم المتمدن للحرية والعدل في انكلترا، إلا أن يكونوا معنا ويطلبوا مثلنا، ألا تكون مصر التي وهبت للعالم أجمل وأرق حضارة مدنية أرضا يخرج فيها جيش الاحتلال بهمجيته، بل بلادا تستطيع المدنية والعدل أن ببلغا فيها من الخصوبة والنمو مبلغ خصوبة أرضها المباركة».

دوي المقال في الغرب

ودوى هذا المقال في انكلترا وأوروبا كلها، وتناقلته الصحف في مختلف الدول، وزلزل الأرض تحت أقدام كرومر، حيث هاجم بعض النواب الأحرار في البرلمان البريطاني اللورد كرومر يستنكرون المحاكمة وتنفيذ الأحكام وحمّلوه المسؤولية الكاملة.

ونصحت جريدة (التربيون) الإنكليزية الحكومة البريطانية بوجوب منح مصر حكومة مستقلة، وذكر الكاتب الانكليزي الشهير المستر ستيد الحكومة البريطانية في مقال له بمجلة المجلات بوعودهم لمصر منذ بدء الاحتلال وأصبحت مصر الحضارة والمدنية شغل الشاغل في صحف العالم كله.

استقبال مصطفى كامل في بريطانيا

ووصل مصطفى كامل لندن في 14 يوليو فقابل عددا من أقطاب السياسة والمعارضة البريطانية، شارحا لهم هذه المحاكمة الجائرة والعقوبات الظالمة، وليعرض قضية مصر واستقلالها فأقامت تكريما له جمعية الوحدة الاسلامية الهندية حفلة كبرى في فندن (كريتريون) حضرها لفيف من المفكرين والكتاب والمسؤولين الشرقيين والانكليز، وبلغ عدد الحاضرين بها 250 عضوا من علية القوم، خطب فيها صاحب الدعوة رئيس الجمعية باللغة العربية، ابتهج في خطابه زيارة أمير أمراء الوطنية وأسد غابة الحرية وبطل المدافعين عن حقوق الإنسان، واستحسن قدومه الى انكلترا لإيقاظ الأمة البريطانية على حقيقة الشؤون المصرية، وأن حضوره لعرض قضية مصر سيجد صدى له كذلك في قلوب محبي الأوطان في الممالك الأخرى الذين هم شركاؤه في الآلام والمصائب، وأن دولة الوطنية أوسع من دول الإسلام.

وخاطبه قائلا له: إنك لست وحدك بل إن أسمى آمال القاطنين على ضفاف نهر الرين والدانوب والغانغ والفرات والبوسفور وقرن الذهب تشارك ابن وادي النيل في مساعيه، وأن أعينهم لمتجهة نحو أفق مصر منتظرة بزوغ فجر الحرية فيها وصدور الإشارة من أرض الفراعنة الأولين بإنقاذ أبناء إسماعيل (العرب) إلا أنه لم يمض سوى عام ونصف العام لتذوي زهرة شبابه في العاشر من فبراير سنة 1908 وعمره لم يجاوز الرابعة والثلاثين.

وللحديث بقية حول اغتيال بطرس باشا غالي وزير الحقانية ورئيس المحكمة بعد أن أصبح رئيسا للوزراء وباعتباره رمزا للخيانة وليس بسبب التعصب الديني، فقد كان الأقباط والمسلمون يعيشون أزهى عصور الوحدة الوطنية الجميل.