مضت عقود قليلا ما تم التطرق خلالها إلى محكمة العدل الدولية الجهاز القضائي لمنظمة الأمم المتحدة التي أُلحق نظامها بميثاق هذه المنظمة، الذي تم التوقيع عليه بمدينة سان فرانسيسكو الأميركية بتاريخ 26/6/1945. وكانت وسائل الإعلام تتطرق إلى جلسات هذه المحكمة الدولية بين الحين والآخر، وبحسب القضايا المرفوعة أمامها أو الآراء الاستشارية التي أدلت بها، وخير دليل غير بعيد على الاهتمام بالمحكمة في عالمنا العربي حين أصدرت رأيها الاستشاري بتاريخ 9/7/2004، حيث طلبت منها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 21/10/2003 الإدلاء برأيها بخصوص جدار الفصل العنصري الذي بنته إسرائيل في الأراضي العربية المحتلة، وكان رأي المحكمة وقتها أن تشييد هذا الجدار مخالف للقانون الدولي ولا يعتبر دفاعا عن النفس ولكن دفاعا عن الاحتلال، ويجب إزالته. وتابعنا أخبار المحكمة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022، حيث لجأت هذه الأخيرة للمحكمة في قضية جديدة قدمتها إليها بعد مرور يومين فقط على هذا الغزو، وتتعلق بتفسير وتطبيق وتنفيذ أحكام اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948.

وانصب جل الاهتمام في وسائل الإعلام بالبلدان العربية، وكذلك من قبل الرأي العام بالمحكمة ونظامها وأعمالها منذ أن رفعت جنوب إفريقيا دعوى ضد إسرائيل بتاريخ 29/12/2023 أمام هذه المحكمة، وكان قد أصدرت هذه الأخيرة بتاريخ 26/1/2024 أمرا بصفة «التدابير المؤقتة»، أشارت فيه بداية إلى قبولها النظر في هذه الدعوى والمتعلقة بارتكاب إسرائيل لجريمة «إبادة جماعية» منتهكة بذلك أحكام اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، كما طلبت المحكمة من دولة الاحتلال بالامتناع عن أي أعمال جرمتها هذه الاتفاقية، وعدم قيام قوات المحتل بارتكاب أي أعمال إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة.

Ad

وعدنا مجددا اليوم، وكلنا أمل بوضع حد للمأساة التي يعيشها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، بمتابعة مستجدات أخبار محكمة العدل الدولية تبعا لما أصدرته بتاريخ 28/3/2024 من قرار جديد يتعلق بطلب أمر «تدابير مؤقتة» اتخذه قضاة هذه المحكمة وفي مقدمتهم رئيسها القاضي اللبناني نواف سلام، وينقسم هذا القرار إلى شقين: يتعلق الشق الأول بتأكيد القرار الذي اتخذته المحكمة بتاريخ 26/1/2024 والذي تم اتخاذه بأغلبية 13 صوتا مقابل صوتين، صوت القاضية الأوغندية نائبة رئيس المحكمة، وصوت القاضي الإسرائيلي الذي تم تعينه كقاض مؤقت. ويتعلق الشق الثاني، الذي تم اتخاذه بإجماع قضاة المحكمة، ولكن عارضه القاضي المؤقت الإسرائيلي، بالنقاط التالية:

1- يجب على إسرائيل، وتطبيقا لالتزاماتها التي تنص عليها اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، ونظرا لتدهور أوضاع الحياة التي يعيشها الفلسطينيون في غزة، وبخاصة مع تفشي المجاعة والجوع، أن تقوم وبإجماع القضاة، بما يلي: - اتخاذ كل الإجراءات الضرورية والفعلية للسهر ومن دون تأخير، وبالتعاون الوثيق مع منظمة الأمم المتحدة، بتوفير وبشكل غير محدود، وعلى نطاق واسع للأطراف المعنية، الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية المطلوبة وذلك على وجه السرعة، وبخاصة الغذاء والماء والكهرباء والوقود والمأوى والملابس ومنتجات النظافة وموادها والصرف الصحي، بالإضافة إلى المعدات والرعاية الطبية للفلسطينيين في جميع أنحاء قطاع غزة، ولا سيما من خلال زيادة سعة المعابر البرية وعددها وإبقائها مفتوحة طالما كان ذلك ضروريا. - ضمان عدم ارتكاب الجيش الإسرائيلي، وبأثر فوري، لأي أعمال تشكل انتهاكا لأي من حقوق الفلسطينيين في غزة بوصفهم جماعة تحميها اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، بما في ذلك تعطيل إيصال المساعدات الإنسانية التي تُشتد الحاجة إليها بأي شكل من الأشكال.

2- يجب على دولة إسرائيل أن تقدم للمحكمة، وفي غضون شهر واحد من تاريخ هذا الأمر، تقريراً عن جميع التدابير التي اتخذتها لإنفاذه.

تتزايد الإدانات بحق قوات الاحتلال وما ترتكيه ليس في قطاع غزة فقط ولكن في أراضي الضفة الغربية أيضا، ولا نبالغ إذا قلنا إننا نشهد ومنذ أشهر صحوة للضمير العالمي متمثلة بشعوب العالم ومكونات مجتمعاته المدنية في مقابل تعنت عدد من البلدان واستمرارها بدعم الاحتلال إعلاميا واقتصاديا وعسكريا، لكننا نرى أن دخول محكمة العدل الدولية، وبشكل لافت للنظر، على خط الأحداث التي تخص الشعب الفلسطيني وأوضاعه المأساوية في غزة هو أيضا مؤشر إيجابي في سعي المجتمع الدولي لإنصاف هذا الشعب والاهتمام بقضيته العادلة، ونحن بانتظار أن تُدلي هذه المحكمة برأيها الاستشاري تبعا لما طلبته الجمعية العامة للأمم المتحدة في الشهر الأخير من عام 2022، بخصوص النتائج القانونية والسياسية وممارسات إسرائيل في الأراضي العربية المحتلة بما فيها القدس الشريف.

* أكاديمي وكاتب سوري مقيم بفرنسا