تنفيذ الأحكام الجزائية الغيابية عدوان على حقوق المواطن وحرياته بالمخالفة للدستور، لما يؤدي إليه شمول الحكم بالنفاذ فور صدوره من إبعاد الكويتي من الكويت بالمخالفة للمادة (27) والعدوان على حريته الشخصية المكفولة بالمادة (30) وما يتفرع عنها من حرية الدين، والتي كفلها كذلك الدستور وديننا الحنيف، وإيذاء المحكوم عليه ونقض افتراض البراءة في الإنسان وحرمانه من محاكمة عادلة منصفة بالمخالفة لأحكام المادتين (31) و(32) وحرمانه من حق الاقتراع والترشح للانتخابات، وهما نوعان من حرية الرأي وحق التعبير عنه اللذين كفلهما الدستور في المادة (260) فضلاً عن المساس بحق الدفاع المستفاد من حق التقاضي الذي كفله الدستور للناس كافة في المادة (166)، ومخالفة حظر اقتراح تنقيح الأحكام الخاصة بمبادئ الحرية إلا لمزيد من ضماناتها (مادة 170).

كلما نمى إلى علمي أن بعض المواطنين قد حرموا من حق الدفاع ومن محاكمة عادلة منصفة، وهم خارج البلاد، ومنهم شخصيات عامة، وافاها الأجل، وهي في الخارج، قبل أن تسقط العقوبة أو تعود إلى بلدها، يلح عليّ حبي للكويت وانبهاري بدستورها، الذي يعتبر بحق وثيقة تقدمية لحقوق الإنسان، فضلاً عن تجربتها الديموقراطية الرائدة في الوطن العربي، بأن أعود للكتابة في هذا الموضوع، وقد كتبت فيه أكثر من مقال على هذه الصفحة في عامي 2015 و2017.

دستور الإجراءات
Ad


ولكن هناك دستور خفي، يبلور خصائص الدعوى الجنائية أو الجزائية وإجراءاتها من حيث مباشرتها وتحريكها، وضوابط المحاكمة المنصفة وحماية حق الدفاع وتحقيق العدالة، لذلك يطلق بعض الفقه على قوانين الإجراءات الجنائية أو الجزائية أنها دستور حقيقي، ولكننا نتحفظ على هذا المسمى، لأنه لا يرقى إلى طبيعة الدستور، باعتباره موئل الحقوق وكفيل الحريات.

فهو قانون يفرض كثيراً من القيود على حريات المواطنين، بما يستلزمه من إجراءات وأسباب وقواعد في القبض على الأفراد أو ضبطهم وإحضارهم إلى سلطات التحقيق أو اختراق خصوصياتهم بتفتيشهم أو تفتيش مساكنهم، أو بالاطلاع على مراسلاتهم أو التنصت على مكالماتهم الهاتفية، وحبسهم على ذمة التحقيق.

إلا أن ذلك لا يمنع من أن نتقبل- مع هذا التحفظ- القول بأن قوانين الإجراءات الجزائية دستور حقيقي يحفظ للحاكم رغبته المشروعة في تتبع الجريمة وملاحظة المجرمين والقصاص للمجتمع من الذين يعكرون صفو النظام العام، وعليه أن يحفظ للمتهم البريء رغبته المشروعة في ألا ينال من إجراءاته عنتاً أو إرهاقاً، أو التواء قصد أو انحراف غاية، لدى فرد من الأفراد، سولت له نفسه أن يتهم الآخرين ظلماً وعدواناً وما أكثرهم والنفس أمّارة بالسوء.

عدم الدستورية

ولم يكن لقانون الإجراءات الجزائية في الكويت حظ في أن يكون ضمن مجموعة التشريعات الحديثة التي صدرت في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، والتي كانت ثورة تشريعية أطلقها من عقالها أحد شيوخ الأسرة الحاكمة، هو الشيخ سلمان دعيج سلمان الصباح، عندما حمل حقيبة وزارة العدل، في عهدين متعاقبين هما عهد الأمير صباح السالم الصباح، وعهد الأمير الراحل جابر الأحمد الصباح، وكان لهذه الثورة أو النهضة التشريعية أثرها الكبير في مواكبة الكويت للتقدم الذي أحزرته الدول الأخرى في المعاملات المدنية والتجارية.

ولعل الحذر من الاقتراب من القوانين الجزائية، بسبب ما قد تثيره الرغبة لدى التيار الإسلامي في المطالبة بتطبيق العقوبات الشرعية كان وراء إغفال قانون الإجراءات الجزائية من حصاد هذه الثورة التشريعية مع ما حفل به قانون الجزاء رقم 16 لسنة 1960 من مبادئ أساسية لشرعية التجريم، والعقاب أفرد لها الباب الأول من أبواب كتابه الأول، الذي استهله بأنه «لا يعد الفعل جريمة، ولا يجوز توقيع عقوبة من أجله، إلا بناء على نص في القانون، هو المبدأ الذي نص عليه، بعد ذلك الدستور في المادة (32)»، وتطبيق القانون الأصلح للمتهم وأسباب الإباحة وحالات تخفيف العقوبة وتشديده، لذلك كان قانون الإجراءات الجزائية هو أول القوانين التي تقتضي المراجعة من السلطة التشريعية وغير ذلك من مبادئ، إلا أننا نعتقد أنه قد آن الآوان ليكون للحريات والضمانات التي كفلها الدستور، مكانها اللائق بها في قانون الإجراءات الجزائية، بتعديله لوضع ضوابط المحاكمة المنصفة العادلة فيه، وخاصة بالنسبة إلى الأولى، الغيابية، وتخليص إجراءاته من شبهة عدم الدستورية.

ولعل أول ما يصادف المرء من ثقوب في ثوب العدالة، في قانون الإجراءات الجزائية في الكويت، هو شمول الحكم الغيابي الصادر بسجن المتهم في جناية بالنفاذ الفوري، وأن المعارضة في الحكم لا توقف نفاذه، ذلك أن المادة (214) من قانون الإجراءات الجزائية تعطي المحكمة سلطة في أن تأمر بجعل الحكم الابتدائي بالعقوبة مشمولا بالنفاذ الفوري.

وهي سلطة كنا نأمل ألا تستخدمها المحاكم في الأحكام التي تصدر في جناية وفي غيبة المتهم، حتى لا تهدر حقوقه في حق التقاضي وفي حق الدفاع، وهو أصل الحريات جميعاً، وفي اعتصامه بالمبدأ القاضي بأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، فالمتهم الذي لم يحضر المحاكمة ولم يقدم دفاعه، ولم ينل المحاكمة العادلة المنصفة، لا يزال يحتفظ بأصل البراءة.

إلا أن البادي أن المحاكم تسرف في استخدام هذه السلطة، ولا تجد حرجاً في استخدامها في الأحكام الغيابية، وفي جرائم لا تمثل خطورة كبيرة على المجتمع، وهو نهج تشريعي يخالف نهج التشريعات التي تنطلق من احترام حقوق الإنسان وكفالتها، حيث يسقط الحكم الغيابي ويعتبر كأن لم يكن إذا حضر المتهم أو قبض عليه قبل سقوط العقوبة، وتعاد محاكمته من جديد.

مخالفة المادة 28 من الدستور

فالمواطن إذا تهدده حكم جزائي غيابي يتم تنفيذه بالقبض عليه في المطار، لارتكابه جريمة، لم يتح له نفيها أمام المحكمة التي أصدرت الحكم ولم يعلم بها أصلاً، فيضطر مذعناً إلى البقاء خارج بلده، يلتمس في أي بلد الأمن والأمان والطمأنينة، وهو ما يعيب المادة (214) من قانون الإجراءات الجزائية بعدم الدستورية لمخالفة الدستور، في أكثر من نص من نصوصه وفيما تنص عليه المادة (28) من أنه «لا يجوز إبعاد الكويتي عن الكويت أو منعه من العودة إليها»، فهو حظر مطلق، لم يعهد به الدستور الى المشرع لتنظيمه، على عكس ما ورد بالنسبة الى الجنسية في المادة (27) «ومن عدم جواز إسقاط الجنسية أو سحبها إلا في حدود القانون، وبذلك يكون الحكم الغيابي بتنفيذ العقوبة المحكوم بها، قد عطل الحظر الدستوري المطلق المنصوص عليه في المادة (28) من الدستور، وهو ما لا يملكه المشرع ذاته، كما أحدث من الأثر في بعض الحالات، ما يحدثه إسقاط الجنسية عن الفرد، بالمخالفة للمادة (27) التي حظرت إسقاط الجنسية إلا في حدود، فأسقطها فعلاً حكم غيابي، عندما يتوفى الإنسان قبل أن تسقط العقوبة عن المحكوم أو قبل عودته للبلاد.

مخالفة الشرع وحقوق الإنسان

ولا يقف تنفيذ الحكم الجزائي الغيابي بما يحدثه من أثر عند مخالفة أحكام المادتين (27) و(28) من الدستور، بل يجاوز ذلك الى مخالفة أحكام ديننا الحنيف ومواثيق حقوق الإنسان الدولية، فقبل أربعة عشر قرناً نزلت آيات الله البينات في قوله تعالى: «قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين». (الأنعام:11)، وقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُور» (الملك:15)

وقد نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 في المادة (13) على أن «لكل فرد الحق في مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده وفي العودة الى بلده» كما نصت على ذلك المادة (12) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.

وللحديث بقية حول مخالفة تنفيذ الحكم الغيابي لنصوص الدستور التي سبق بيانها في صدر هذا المقال.