تواصل أسعار الذهب تسجيل مستويات قياسية مستمرة، بدعم المخاوف الجيوسياسية واستمرار مشتريات البنوك المركزية.

لكن الارتفاع القوي للمعدن يثير بعض التساؤلات مؤخراً، بالنظر إلى استمرار معدلات الفائدة المرتفعة وتراجع توقعات الأسواق لموعد ووتيرة الخفض المتوقع من جانب الاحتياطي الفدرالي.

Ad

ارتفاعات قياسية مستمرة

وشهد الأسبوع الماضي تحقيق الذهب مستويات غير مسبوقة، ليواصل المعدن موجة الصعود المستمرة في العامين الماضيين.

وتخطى المعدن النفيس مستوى 2200 دولار للأوقية خلال تعاملات يوم الجمعة الماضي، بعد صدور تقارير الوظائف الشهري الأميركي، قبل أن يقلص وتيرة الصعود لاحقاً.

وسجلت العقود الآجلة للذهب تسليم شهر أبريل أعلى تسوية على الإطلاق عند 2185.50 دولاراً للأوقية بنهاية الأسبوع الماضي.

وكما صعد سعر التسليم الفوري للذهب لمستوى قياسي جديد مسجلًا 2179 دولاراً للأوقية عند تسوية تعاملات الجمعة الماضي.

وحقق المعدن النفيس مكاسب تقارب 4.6% خلال الأسبوع الماضي، في أفضل أداء أسبوعي في خمسة أشهر.

ومنذ بداية العام الجاري، ارتفع سعر العقد الأكثر نشاطاً للذهب بنحو 5.5% حتى تسوية تعاملات الجمعة الماضية.

وتعتبر أسعار الذهب حالياً أعلى بنحو 30% من مستويات 1600 دولار للأوقية والتي سجلها المعدن في نهاية عام 2022.

عوامل داعمة للصعود

واستفاد المعدن النفيس من استمرار شهية البنوك المركزية لحيازة الذهب، بالإضافة إلى الطلب المدفوع بالمخاوف الجيوسياسية.

وبلغت مشتريات البنوك المركزية العالمية من الذهب نحو 39 طناً في شهر يناير الماضي، ما يعتبر أكثر من ضعف المشتريات المسجلة في ديسمبر والبالغة 17 طناً، لتواصل تسجيل صافي مشتريات للشهر الثامن على التوالي.

وفي يناير، قادت تركيا مشتريات البنوك المركزية من الذهب بنحو 12 طناً، كما اشترت الصين حوالي 10 أطنان لترفع حيازتها من المعدن للشهر الخامس عشر على التوالي.

وكشف مسح لمجلس الذهب العالمي أن البنوك المركزية تفضل شراء المعدن النفيس للاستجابة للأزمات وتنويع احتياطياتها والاعتماد على الذهب كمخزن للقيمة.

وعلى جانب موازٍ، يستمر المستهلكون في الصين في التدافع لحيازة الذهب، بحثاً عن الاحتفاظ بأموالهم في ملاذ آمن، خاصة بعد هبوط أسعار العقارات والأسهم في البلاد.

واعتبر «روس نورمان» الرئيس التنفيذي لصحيفة «ميتالز ديلي» الصناعية أن المستثمر الغربي ليس وراء ارتفاع أسعار الذهب، حيث إن المعدن يتدفق نحو الشرق.

كما أسهمت المخاطر الجيوسياسية أيضاً في صعود أسعار الذهب، مع استمرار الصراعات في أوكرانيا وغزة.

وقال «جيمس ستيل» محلل المعادن النفيسة في «إتش إس بي سي» إن هناك عددا محدودا من الأصول التي يمكن للمستثمرين أن يصفوها بالملاذ الآمن، مشيرًا إلى أن الذهب يعد من أبرزها.

وصعدت أسعار الذهب بأكثر من 300 دولار للأوقية منذ بداية الحرب في قطاع غزة.

وكما أشار «جوزيف كافاتوني» خبير السوق الاستراتيجي في مجلس الذهب العالمي إلى أن الرهانات على خفض معدلات الفائدة تدفع أسعار الذهب للصعود.

وقال «جيروم باول» رئيس الاحتياطي الفدرالي في شهادته أمام الكونغرس الأسبوع الماضي إن الفدرالي ليس بعيداً عن الحصول على الثقة الكافية بأن التضخم يتجه نحو المستهدف البالغ 2%، ما سيجعله قادراً على بدء خفض معدلات الفائدة.

وتسعر الأسواق المالية احتمالية تتجاوز 70% لخفض معدلات الفائدة الأميركية في اجتماع شهر يونيو المقبل.

وتؤدي معدلات الفائدة المنخفضة إلى تراجع تكلفة الفرصة البديلة لحيازة الذهب الذي لا يدر عائداً، كما أن انخفاض الفائدة الأميركية يضع ضغطاً سلبياً على الدولار، ما يجعل شراء الذهب أقل تكلفة بالنسبة لحائزي العملات الأخرى.

ورغم استفادة الذهب منطقياً من توقعات الأسواق باتجاه الاحتياطي الفيدرالي لخفض معدلات الفائدة في العام الحالي، فإن حقيقة تراجع التوقعات بشأن موعد ووتيرة خفض تكاليف الاقتراض كان من المفترض أن يمثل تطوراً سلبياً للمعدن.

وفي بداية العام الجاري، كانت توقعات الأسواق تشير إلى خفض معدلات الفائدة الأميركية 6 مرات خلال 2024، في مخالفة لتوقعات الفدرالي نفسه والذي أشار في ديسمبر إلى ثلاث عمليات خفض محتملة.

لكن بعد صدور العديد من البيانات الاقتصادية الأميركية القوية وتصريحات مسؤولي الفدرالي، قلصت الأسواق توقعاتها للخفض المحتمل للفائدة إلى ثلاث عمليات خفض فحسب تبدأ في يونيو المقبل.

وكرر كثير من مسؤولي الفدرالي الأميركي تصريحاتهم بشأن «عدم التعجل» في خفض معدلات الفائدة، مع استمرار تقييم آفاق التضخم والوضع الاقتصادي، بينما توقع «نيل كاشكاري» رئيس البنك في «مينيابوليس» الاقتصار على عمليتي خفض في 2024.

ويأتي ارتفاع الذهب لمستويات قياسية بالتزامن مع استمرار معدلات الفائدة الأميركية عند أعلى مستوياتها منذ عام 2001 عند نطاق 5.25% و5.5%.

وعلى جانب مواز، من المعتاد أن يؤدي ارتفاع أسعار أي أصل إلى ظهور اهتمام مضاربي بهذا الأصل، لكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للذهب.

وتراجعت حيازات الذهب في صناديق الاستثمار المتداولة في البورصة في فبراير الماضي بنحو 49 طناً، لتستمر التدفقات الخارجة للشهر التاسع على التوالي.

وتبرز علامة الاستفهام الثالثة في حقيقة أن الصعود القياسي للذهب يأتي بالتزامن مع ارتفاع الدولار الأميركي، في تحد واضح للعلاقة العكسية المعروفة بينهما.

ويتداول مؤشر الدولار الأميركي – الذي يقيس أداء العملة الخضراء أمام سلة من ست عملات رئيسية – أعلى بنحو 1.4% من مستوياته في بداية العام.

والأمر الآخر أنه عادة ما تكون هناك علاقة سلبية قوية بين معدلات الفائدة المعدلة وفقاً للتضخم وبين الذهب، لكن أداء المعدن مؤخراً كان جيداً رغم اقتراب الفائدة على سندات الخزانة المحمية من التضخم لأجل 20 عاماً من أعلى مستوى في 14 عاماً.

وقال «جوني تيفيس» الخبير الاستراتيجي في بنك «يو بي إس» إن أداء الذهب في الأسابيع القليلة الماضية يثير كثيرا من التساؤلات.

وأشار «تيفيس» إلى أن السؤال الأبرز حالياً يتمثل فيما إذا كان هناك شيء لم يتم احتسابه بشكل كامل عند النظر إلى الصعود القياسي المتواصل للمعدن.

وذكر «بيتر بوكفار» كبير مسؤولي الاستثمار في «بليكلي فاينانشيال جروب» أن أداء الذهب كان جيداً بالرغم من ارتفاع معدلات الفائدة وقوة الدولار، معتبراً أن ذلك يرجع إلى حد كبير إلى مشتريات البنوك المركزية العالمية لكميات هائلة من المعدن بعد مصادرة الغرب لأصول روسية بقيمة 300 مليار دولار بعد غزو أوكرانيا.

وأوضح «بوكفار»: «يمكنك تخيل وجهة نظر الصين ودول أخرى والتي تطرح سؤالاً وجيهاً: هل نريد حقاً أن نحتفظ بجميع أصولنا في سندات الخزانة الأميركية بعد ما حدث؟».

هل يواصل الذهب مكاسبه؟

ويسود التفاؤل في أوساط المحللين حيال مسار الذهب خلال الفترة المقبلة، وسط توقعات باستمرار الطفرة القياسية للمعدن.

ووصف محللون في «سيتي بنك» أنفسهم بأنهم «متفائلون بشأن ارتفاع أسعار الذهب على المدى المتوسط»، مع احتمالية تبلغ 25% لوصول متوسط الأسعار إلى 2300 دولار للأوقية في النصف الثاني من هذا العام.

ورغم أن السيناريو الأساسي للبنك الاستثماري يشير إلى وصول الذهب إلى 2150 دولاراً في المتوسط، فإنه أشار إلى وجود احتمالية محدودة لارتفاع المعدن إلى 3000 دولار خلال الاثني عشر إلى الثمانية عشر شهراً المقبلة.

وقال «سيتي» إن الذهب بمنزلة أداة تحوط ضد الركود في الأسواق المتقدمة، بالإضافة إلى أهميته في مواجهة عدم اليقين الذي يحيط بالانتخابات الأميركية في نوفمبر.

وكما يرى المحللون في «بيرينبيرغ» أن فوز «دونالد ترامب» في الانتخابات الأميركية سيقدم دعماً كبيراً للذهب، بالإضافة إلى الدعم الإضافي للملاذ الآمن من التقلبات الخاصة باستمرار حربي أوكرانيا وغزة.

وبينما يعتقد الاستراتيجيون في «إي إن جي» أن السياسة النقدية للاحتياطي الفدرالي ستظل عاملاً رئيسياً لآفاق الذهب في الأشهر المقبلة.

وتوقع البنك أن تظل أسعار الذهب متقلبة خلال الأشهر القادمة، مع تفاعل السوق مع عوامل الاقتصاد الكلي والأحداث الجيوسياسية.

ورغم الارتفاع القياسي الاسمي للذهب مؤخراً، لا يزال المعدن النفيس بعيداً عن أعلى مستوى على الإطلاق عند تعديل الأسعار وفقاً للتضخم والبالغ حوالي 3200 دولار للأوقية في عام 1980، بحسب «بيتر بوكفار».

وذكر «بوكفار» أن أسعار المعدن لا تزال بعيدة عن المستويات القياسية المعدلة وفقاً للتضخم، مشيراً إلى أن ذلك يشير إلى الاتجاه الصعودي المحتمل للذهب.

وبينما يرى «نيتيش شاه» استراتيجي السلع الأولية في «ويزدوم تري» أنه من المرجح أن تتسبب المخاطر الجيوسياسية الناتجة عن توترات البحر الأحمر والانتخابات المنتظرة في عدة مناطق حول العالم في استمرار قوة الطلب على الذهب.

ولكن «شاه» شدد على أنه لن يشعر بالمفاجأة إذا تخلى المعدن النفيس عن بعض هذه المكاسب في الوقت الذي يتحدث فيه الاحتياطي الفدرالي عن إرجاء خفض معدلات الفائدة، في حين سيستفيد الذهب من تحقق توقعات الخفض لاحقاً.