الأستاذ محمد الشارخ من أعلام الكويت الذين سبقوا عصرهم في الاهتمام بالتقنيات الحديثة وتطبيقاتها لخدمة الناطقين باللغة العربية، فلم تكن «صخر» علامة تجارية فقط، بل كانت مشروعاً ثقافياً نهض به الأستاذ الشارخ وقام به خير قيام، وتتمثل ريادته بهذا المجال في جهوده المميزة للحفاظ على اللغة العربية، وهي لغة القرآن الكريم، وذلك من خلال تطويرها وتحديثها باستخدام أدوات التقنية الحديثة كالتدقيق الإملائي، والنحوي، والتشكيل الآلي، والنطق الآلي، وحفظ النصوص، وما إلى ذلك من أمور في ذلك المجال الذي لم تكن فائدته مقصورة على الوطن العربي، بل امتدَّ أثره في مناطق مختلفة من العالم.
وفي سبيل ذلك أنشأ عدة مراكز للتدريب في الوطن العربي، واهتم بشكل خاص بتطوير البرامج التعليمية والتثقيفية وتعليم البرمجة للناشئة، ونشر كتب تعليم الحاسوب وتدريب المدرسين، وتأسيس معاهد تعنى بتعليم برمجة الحاسب الآلي. وكل ذلك كان له تأثيره الكبير في نشر الثقافة الإلكترونية وتطبيقاتها العربية.
ومنذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وبالتعاون مع فريق كبير من المهندسين والمبرمجين وحاملي الدكتوراه العرب، استطاع الأستاذ الشارخ تطوير أنظمة وبرامج تعليمية ومكتبية عربية كثيرة لقيت انتشاراً واسعاً في الأقطار العربية كافة، وطوّر لأول مرة عام 1984م برنامجاً كمبيوترياً للقرآن الكريم، وآخر للحديث الشريف عام 1989م، وحصل على ثلاث براءات اختراع من هيئة الاختراعات الأميركية، ربما كانت الأولى في تاريخ العرب، وحصل على جائزة الروّاد من منتدى الفكر العربي عام 2004م، وعلى جائزة الدولة في الكويت عام 2015م، وجائزة الملك فيصل العالمية عام 2021م.
إن الإنجاز الذي حققه الأستاذ الشارخ في مجال تطويع القوالب الإلكترونية لخدمة اللغة العربية والتراث العربي والإسلامي بشكل عام هو إنجاز لا يتسنى إلا لشخص محب لأمته وتراثها وعقيدته الإسلامية، والبرامج التي توصلت إليها مشاريعه في مجال التقنيات تشهد على ذلك. فقد حرص في برنامج القرآن الكريم على توفير أدوات برمجية عديدة يمكنها تقديم النص بالرسم العثماني، بالإضافة إلى إتاحة البحث عن أي موضوع بسهولة ويسر. كما قدَّم البرنامج شرحاً لغريب مفردات القرآن الكريم البالغة 7200 كلمة، وإتاحة البحث عن الآيات عن طريق أي مفردة فيها، وتفسير الآيات من أهم كتب التفسير المعروفة، بالإضافة إلى تقديم التلاوة الصوتية والترتيل بصوت الشيخ محمود الحصري، وإتاحة الترجمات العديدة.
أما برنامج موسوعة الحديث فتضمّن تقديم 62 ألف حديث صحيح وردت في كتب السنة التسعة الصحيحة التي تبلغ صفحاتها نحو 20 ألف صفحة تم تحقيقها وضبط نصوصها وترقيمها، مع معلومات عنها بما يزيد على 500 مجلد من كتب السنّة، ويحتوي البرنامج على فهارس لكل كتاب وللكتب التسعة معاً وقدّم تقسيماً لموضوعات الحديث بلغ 7500 موضوع، وشرحاً للتعريب في مفردات الموسوعة الذي بلغ 77200 كلمة وتراجم للرواة وأقوال علماء الجرح والتعديل، ويحوي خرائط الإسناد لكل حديث وغيره.
وُيعَدُّ المعجم الحديث للغة العربية من أبرز إنجازات شركة صخر، وهو معجم إلكتروني يحتوي على 125 ألف معنى وتركيب تحت 80 ألف مدخل و35 الف مترادف ومتضاد من كلمات الكتابة العربية الحديثة منذ أوائل القرن العشرين مع خواصها اللغوية وروابطها الدلالية ونطقها وترجمتها للإنكليزية مع نطقها، بالإضافة إلى ثلاثة معاجم تراثية للمقارنة وقاموس عربي/إنجليزي/ عربي، وكلها تعمل على أجهزة الكمبيوتر والأجهزة الكفية المختلفة، ومتاح على الإنترنت من دون مقابل. والمعجم مستمر في زيادة المداخل، وتنقيحها، وتحسين تقنياته، ومواكبة تطور التقنيات الدولية، وهذا المعجم يسد فراغاً في مجال الكتابة العربية الحديثة.
ومن الأعمال الجليلة التي قدَّمها الأستاذ الشارخ لكل الباحثين والمثقفين، مشروع «أرشيف المجلات الثقافية والأدبية والعربية»، الذي يحتوي على 205 مجلات تتضمن 13879 عدداً بها 84119 مقالاً
لـ 22974 كاتباً. ويشتمل هذا العمل على معظم المجلات الثقافية والأدبية العربية للبلاد العربية كافةً، منذ أواخر القرن التاسع عشر، مع إمكانية البحث في فهارسها عن عناوين المقالات، ومقالات كاتب معيّن، أو مجلة معينة وفي تاريخ معيّن. والأرشيف متاح على الإنترنت من دون مقابل، ومستمر في إضافة النواقص وزيادة المجلات في هذا المجال.
ويُضاف إلى ما تقدم إنشاء برنامج آلي لتصحيح الأخطاء الإملائية العربية والنحوية في النصوص العربية (صححلي)، وهو من أفضل البرامج في هذا المجال، ومتاح مجاناً على الإنترنت. وهذا من شأنه مساعدة الطلبة ومحرري الصحف وغيرهم في المحافظة على سلامة لغتهم وتعبيرهم. وتعتمد هذه التقنية في بنائها على توظيف الذكاء الاصطناعي على مجموعة من القواعد الإملائية والنحوية للغة العربية، وعلى المحلل الصرفي متعدد الأطوار الذي بنته «صخر» معتمدة فيه على قاعدة بيانات معجمية لمفردات اللغة العربية.
إن هذا الانتاج الكبير كان وراءه عمل استغرق ما يزيد على أربعين عاماً متواصلاً أنشأ من خلاله جيلاً من الشباب الذين تثقفوا في معاهد التدريب ومراكزه المتعددة التي أقامها الأستاذ الشارخ في الكويت والمملكة العربية السعودية ومصر، واستوعبوا تلك الأفكار التي كان يهدف إليها، وأصبحوا امتداداً لذلك الفكر الذي بدأه صاحب «صخر» في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، وقد كان عمله حملة تنويرية شاملة، ولم يكن الربح المادي هو هدفه في هذا المجال، بل كان حريصاً على أن يحقق ما يصبو إليه من خدمة كانت الأمة العربية والإسلامية في أشد الحاجة إليها في ضوء التطورات التقنية الحديثة.
ولكل ما تقدّم كانت جائزة خدمة الإسلام المقدمة من مؤسسة الملك فيصل العالمية، لعام 2021 م من نصيب الأستاذ محمد عبدالرحمن الشارخ، وجاء في حيثيات الجائزة أنها كانت «لدوره البارز في دعم وغرس روح البحث والتجديد والابتكار لحفظ التراث الإسلامي من خلال التقنيات الحديثة وقيامه بإنتاج أول برنامج حاسوبي للقرآن الكريم وكتب الحديث، وتحديث أرشيف المعلومات الإسلامية الذي يضم القرآن الكريم وموسوعة الحديث الشريف وموسوعة الفقه الاسلامي، وإصدار معجم إلكتروني معاصر للغة العربية وبرنامج المصحح العربي، وتطوير نظام إبصار للمكفوفين».
لقد نال الأستاذ الشارخ هذه الجائزة العالمية عن استحقاق وامتياز، كما نال تقدير عالم المثقفين والباحثين الذين يثمنون عالياً عطاءه الكبير، وخدماته الرفيعة للغة القرآن الكريم وللثقافة العربية، داعين المولى - عز وجلّ - أن يكون كل ذلك في ميزان حسناته يوم القيامة.
* رئيس مركز البحوث والدراسات الكويتية