أمشي في أركان المنزل، ومع كل خطوة شريط ذكريات 24 عاما من عمري تمر... ففي هذه الغرفة درست مرحلة البكالوريوس وسهرت ساعات طوالاً لأحصل على بعثة الماجستير، وفي هذا الركن شربت الشاي مع ماما حصة، وفي هذا الركن احتضنت بابا كريم في لحظات انهياره مع الاكتئاب، وهنا بكيت أشهراً على فراقهما، هذا البيت كان وطني، كان ملاذي وكان خلاصي، أناجيه ويناجيني، فبين حيطانه فرحة وأمان وأحلام وردية، وبين سقوفه كوابيس موحشة كئيبة، وخلف أبوابه أسرارٌ بحت لها وأغلقت فيها ذاتي.

أودع اليوم ذلك الجماد الشامخ، الذي يزهو بعطر والديّ، ذلك الجماد الذي بُني بذوق والدتي بالأسطح الرخامية، وازدهر بمفروشاتها المعتقة الكلاسيكية، وقرأ فيها والدي كتبه القيمة التي لا تقدر بثمن... تلك المكتبة الجميلة التي لطالما أحببتها، وقرأت فيها كتبه له، واستمعنا لأغاني فيروز وأشعار المتنبي، في ذلك السرداب الواسع.

Ad

أقف في كل زاوية وعلى كل باب، ودموعي تنهمر في ذكرى والديّ هنا وهناك، أروي عطش عينيّ فأضغط على شفتيّ، وأستنشق هواءه في كل شبر، فكيف أودع هذا الأمان الذي يرونه بيتاً، وأراه قصراً لوالديّ.

أودعه اليوم على مضض، وذكريات والديّ فيه، حيث تعانقت روحي بذكرياتهما، في حديث لا يمل، هنا جلسنا، وهنا تحدثنا بمواضيع لا تمل، هنا شربنا الشاي «هالقعدة معاچ تسوى الدنيا وما فيها» قالتها أمي بحب، وهنا احتضنني والدي ليعد الشيب الذي اشتعل في رأسي «والله فيچ شيب بابا، أعدهم لچ؟» كيف لي أن أودع ذاتي وروحي؟ خسرت أبي للزهايمر وكورونا، وخسرت أمي لمرض السرطان اللعين، واليوم أخسر الاستقرار الذي يحوي ذكراهما.

أودعه، وأحمل في جعبتتي حزناً عميقاً، وشوقاً لمغامرة جديدة ومخيفة، هممت بالرحيل، وكم أرهقني التفكير والأرق في ليالٍ داكنة، أرحل عن بيت والديّ الدافئ بذكراهما، وأترك نقوش دموعي في حيطانه... وأستجمع ما تبقى فيه من الذكريات... لم تعد يدي قادرة على التعبير، فدموع فراقي للبيت أبلغ لغة لوداعه الذي عشت في كنفه دفء ذكراكما، فذكرى هذا البيت لن تُنسى ما حييت، وأرجو منكما المعذرة، إن لم أكن كما تريدان فلم أستطع حمايته... وفي خلو البيت، اتضح لي هدوءه، أنادي والديّ ليرد صدى صوتيهما في أرجاء ذكراهما المتشابكة ببكائي ورعشة تركي لبيتي... اللهم ارحمهما واجمعني معهما في جناتك.