ربما لا يختلف اثنان على أن الإجراءات التي اتخذتها وزارة الداخلية، بالتعاون مع الجهات الحكومية ذات العلاقة كوزارات التجارة والإعلام والبلدية، فضلاً عن الهيئة العامة للبيئة، أدت الى تنظيم أول أعياد وطنية منذ سنوات طويلة بأقل درجة ممكنة من المخالفات، لا سيما من خلال تقويض العديد من المظاهر التي سادت هذه الاحتفالات منذ مرحلة ما بعد التحرير، كهدر أطنان المياه بطريقة فوضوية لا تتناسب مع طبيعة المناسبات الوطنية، فضلاً عن تعريضها السلامة المرورية وحياة الناس للخطر.

قيمة ومقارنة

Ad

ومع أن مسألة ضبط الاحتفالات الوطنية تُعدّ محدودة القيمة عند مقارنتها بما تحتاجه الكويت من إصلاحات أشمل وأكثر جدية، إلا أنّها أعطت إشارة لما يمكن تحقيقه عندما تتولى مؤسسات الدولة مسؤولية التوعية المجتمعية وتطبيق القانون بما يفضي إلى تقديم نموذج نجاح للرأي العام من أبسط القضايا التي تعاني الإهمال أو التقاعس المزمن أو الفساد الإداري والمالي، كالقوانين المرورية، أو ضبط مواعيد العام الدراسي، أو إصلاحات الطرق، مروراً بحوكمة أوضاع الخدمات البسيطة، كالحيازات الزراعية أو العلاج بالخارج أو سلاسل عقود الباطن على أملاك الدولة وآثاره التضخمية، أو التعامل مع المقاولين المتأخرين في تنفيذ العقود الحكومية، فضلاً عن القضايا الأمنية ذات الأبعاد الاقتصادية أو الاجتماعية الأكثر تعقيداً، كتجارة الإقامات والبشر، إلى جانب عمليات غسل الأموال، وصولاً إلى التحديات الاقتصادية الأكبر كضبط المالية العامة، والالتزام بسقف محدد للمصروفات، وتحويل السياسات التنموية الواردة في برامج عمل الحكومة وخطط التنمية المتعاقبة على صُعد تنويع مصادر الدخل ومعالجة اختلالات سوق العمل إلى واقع عملي يلمسه المجتمع ويقتنع به.

أبسط وأعقد ونموذج

وفي ظل ما تحتاجه الكويت من قضايا متفاوتة الأهمية من الأبسط الى الأعقد، فإن أي إصلاح حقيقي يستلزم تقديم نماذج نجاح أكثر جدية كي يقتنع بها المجتمع، فما حدث خلال سنوات أو حتى عقود ماضية، يشير إلى أن السياسات الحكومية غالباً ما تناقض خطابها الرسمي، فعندما تتحدث الحكومة مثلاً عن ضبط المصروفات تتوسع بالإنفاق، وعندما تضع سقفاً للميزانية تكسره خلال أسابيع قليلة، وبينما تتوسع في الإنفاق على الأمن الغذائي تتحول المزارع إلى منتزهات سياحية بعيدة عن أغراضها الأساسية، وفي الوقت الذي يتحدث الخطاب الرسمي عن الخصخصة نجد الحكومة تنشئ شركات حكومية صرفة في قطاعات غير أساسية، كالبريد والتخزين، وتترك الرياضة ضحية لصراعات أصحاب النفوذ دون أن تبادر بتقديم نموذج خصخصة ناجح ينتشلها من واقعها المرير.

نجاح آخر

وحتى لا نتوسع بذكر الأمثلة، فإننا اليوم، بعد نجاح الاحتفالات بلا «بالونات أو رغوات» الفوضى، بحاجة الى مثال نجاح آخر يتعلق بحماية المالية العامة من فوضى الشعبوية.

فقد كان يتصور من الحكومة - عندما طلبت من البرلمان مطلع الشهر الجاري مهلة إلى بداية مارس المقبل، لتقديم تصوّراتها لما يُعرف بـ «تحسين معيشة المواطنين»، وما تلا ذلك من حل لمجلس الأمة - أن تبادر بتفعيل سياستَي التوعية وتطبيق القانون، لئلا تنزلق في الاتجاه المعاكس لخطابها الاقتصادي الذي عبّر عنه رئيسها وبرنامج عملها بالتحذير من مخاطر المستقبل واستحالة الاستمرار في النموذج المالي الحالي.

مصارحة المجتمع

فالتوعية المنشودة تتعلّق بضرورة مصارحة المجتمع ليس فقط بأن الأوضاع المالية السهلة للبلاد ليست مستدامة في ظل تضاعُف الإنفاق العام ومعظمه جاري أو استهلاكي 8 مرات عمّا كان عليه عام 2001، بل أيضاً بالاعتراف بأن الخلل المعيشي بالكويت ليس ماليا صِرْفاً، إنما يرجع بشكل أساسي إلى سوء الخدمات العامة، وبالتالي فإن الزيادات المالية لو أقرّت فهي معالجة للعَرَض لا المرض أو النتيجة وليس السبب، مع التذكير بما أنفقته الدولة بمبالغ مالية تجاوزت 3 مليارات دينار لم تحسّن المستوى المعيشي للمواطنين، لا سيما الطبقة المتوسطة، بل بالعكس، زادت تضرراً مع ارتفاع التضخم، وأن الأولوية يجب أن تنصبّ في اتجاه تحسين مستويات الخدمات، كالتعليم والصحة والسكن والطرق.

الفريق الغائب

وهذه التوعية ليست مسؤولية المواطن العادي، إنما الفريق الاقتصادي للحكومة الغائب الأكبر عن مهمته في شرح الأبعاد الاقتصادية والمالية والمخاطر الشعبوية على الاستدامة في البلاد، ونقصد هنا وزارتَي المالية والتجارة، وبنك الكويت المركزي، والتأمينات الاجتماعية، وإدارة الإحصاء، لما تمتلكه من أرقام وبيانات وإحصاءات وتوقّعات مهنية يمكن أن تغيّر وجهة نظر الرأي العام لمصلحة دعم الخطاب الاقتصادي للحكومة، أو على الأقل تحييد الخطاب الشعبوي.

مراجعة الهدر

أما تطبيق القانون فيصلح كنموذج تراعى فيه إعادة النظر بمختلف أوجه الهدر في المصروفات العامة، لا سيما ما يتعلق بإعادة النظر بمشروع الميزانية العامة للدولة للسنة المالية 2024 - 2025، التي أعدتها وزارة المالية بصيغة مكررة تحمل نفس سلبيات أي ميزانية سنوية سابقة بكل ما فيها من اختلالات مالية واقتصادية، إذ جاءت تقليدية وبلا لمسات إصلاحية، وغلب عليها كالعادة المصروفات الجارية ببلوغ المرتبات والدعوم 79.4 بالمئة من المصروفات، والإنفاق الرأسمالي 9.3 بالمئة بإيرادات نفطية متوقعة بـ 87 بالمئة من إجمالي الإيرادات، مع سعر تعادل عند 90.7 دولاراً مع سعر أساس يبلغ 70 دولاراً للبرميل، بفرضية عجز 5.89 مليارات دينار، بعد توقّع إيرادات 18.66 ملياراً ومصروفات 24.55 ملياراً، وهو ما يستدعي تقديم نموذج إصلاح، ولو بسيط، للمالية العامة من خلال - مثلاً - تقليص المصروفات غير الضرورية، أو إعادة استقطاع نسبة الـ 10 بالمئة المقررة من إيرادات النفط لمصلحة صندوق احتياطي الأجيال، وهو إجراء متوقف منذ 4 سنوات، ولم يستقطع سوى 1 بالمئة فقط منه خلال السنة المالية الحالية.

ما تحتاجه الكويت هو أن تتطور مسألة منع البالونات وهدر المياه والاعتداء على المحتفلين في الأعياد الوطنية الى نموذج نجاح يشمل قضايا أكثر استمرارية وتعقيداً وأهمّية، كي نؤمن بالفعل بأن البلاد بدأت تسير على الطريق الصحيح.