لم يمثّل إفلاس منصة ftx للعملات المشفرة - ثاني أكبرمنصة بعد منصة باينانس - مطلع الشهر الجاري صدمة لمن يتابع ما يُعرف بـ «عالم الكريبتو» الحافل بالتقلبات والتعاملات والمخاطر التي تنافي كل ما تم التعارف عليه في قطاعات تداول الأصول المختلفة.

فإفلاس «إف تي إكس» (ftx)، التي وصفها رئيسها الجديد المكلف بتصفيتها، جون راي، بأنه «لم يرَ في حياته المهنية مثل ما رآه في FTX، من حيث الفشل التام في الضوابط والغياب التام للمعلومات المالية الجديرة بالثقة»، لم يكن حادثاً استثنائياً، إنما نتيجة منطقية لأحداث متتالية بطريقة أحجار الدومينو شهدتها منصات متعددة في عالم العملات المشفرة قد تجعل من افلاس FTX مجرد رأس جبل الجليد لعمليات افلاس وانهيارات في «عالم الكريبتو». ففي شهر يوليو الماضي، قالت منصة سلسيوس نتورك الأميركية، إنها تقدّمت بطلب إعلان إفلاسها رسمياً، في إشارة إلى عمق المشاكل والاضطرابات التي يعانيها سوق العملات المشفرة، ورافقتها في نفس الإجراء الخاص بالتقدم لطلب الإفلاس، منصة فوييجر للعملات المشفّرة، بعد تعليق عمليات السحب والإيداع، أما منصة جينيسيس التي شددت في وقت سابق على أنها ليست معرّضة للإفلاس، فتحاول - حسب بيانها الأسبوع الجاري - جمع تمويلات لمواجهة موجة السحب التي تجتاح عالم الكريبتو.

وعلى وقع إفلاس «ftx»، شهدت العديد من المنصات الأخرى، مثل «كوين هاوس» و«جي ميني» و«بلوكفاي» ربكة في عمليات السحب والإيداع، مع نمو مخاطر الانكشاف المالي، إذ فاقت السحوبات أحجام الإيداعات.
Ad


إفلاس وسرقة وتدهور

وتأتي ظاهرة إفلاس منصات العملات المشفّرة ضمن المخاطر العالية في تداولاتها، خصوصا مع عمليات سرقة أو اختراق هذه المنصات بقيمة تقدّر بـ 4 مليارات دولار، وهذه كلها كانت عوامل أضيفت إلى العامل الأهمّ المتمثل في سياسات التشديد النقدي الذي تبنته البنوك المركزية العالمية، خصوصا المجلس الاحتياطي الفدرالي الأميركي المتعلق برفع أسعار الفائدة، مما قلل جاذبية الأصول العالية المخاطر، خصوصا العملات المشفّرة، وهو الأمر الذي أدى الى تدهور القيمة السوقية للعملات المشفّرة من ترليونَي دولار في مطلع العام الحالي الى 750 مليارا مطلع الأسبوع الجاري، بتراجع حاد لكبريات العملات المشفّرة، مثل بتكوين وإثيريوم وكاردانو، بما يوازي ثلثَي أسعارها مقارنة ببداية العام. وفي الحقيقة، فإن العملات المشفّرة أقرب الى كونها فقاعة أكثر من أن تصبح أصلا يتمتع بصفات العملة المتعارف عليها، وهي أشبه ببذور التوليب الهولندية في القرن السابع عشر، التي فاقت فيها أسعار البذور أسعار مزارع كاملة، وغيرها من الفقاعات المالية على مر التاريخ، كأسعار عقارات فلوريدا واليابان في فترات زمنية مختلفة، أو حتى ما نعرفه في الكويت بـ «سوق المناخ».

ليست عملة أصلاً

فمصطلح العملة يستوجب أن تحظى الإداة بعدد من الصفات، أهمها أن تكون مخزنا للقيمة، وهذا أمر غير متوافر بالعملات المشفرة، نظرا للتذبذب الحاد والسريع في أسعارها هبوطا وارتفاعا، الى جانب أن تكون وسيلة تبادل للمعاملات التجارية والفردية، أو أداة لتسعير السلع والمنتجات، وهذا أمر أيضا غير متاح، لكون التعاملات الخاصة بالكريبتو مقتصرة في معظمها على مضاربات في بورصات ومنصات لا أثر لها في التجارة الدولية، كما أن أي عملة يُفترض أن تكون معلومة المصدر، وهذا ينافي أهم صفات العملات المشفرة في أنها مجهولةالمصدر، فهي لم تصدر لا من دولة ولا منظمة ولا حتى من شركة معروفة.

تحذيرات ومخاطر والتفاف

ولعل هذا الوضع غير مألوف في عالم الأعمال، وبات مصدر قلق لدى العديد من متخذي السياسات المالية حول العالم، إذ حذّر بنك التسويات الدولية من خطورة الاستثمار بالعملات المشفّرة، وطالب باستبدالها بعملات رقمية مركزية خاضعة للحكومات، في حين شدد المجلس الاحتياطي الفدرالي الأميركي على أن العملات المشفرة تشكّل مخاطر تتعلق بالسلامة وحماية المستهلك والاستقرار المالي، في حين اعتبر بنك إنكلترا أن هناك حاجة واضحة إلى حماية النظام المالي بعد انهيار منصة ftx، أما البنك المركزي الأوروبي فقد حذّر منذ بداية العام من استخدام العملات المشفّرة للالتفاف على العقوبات الروسية. وفي الحقيقة، فإن خطورة التعامل بالعملات المشفرة نتيجة إفلاس منصاتها أو سرقة محتوياتها، أو نظرا لتحذيرات جهات التنظيم العالمية، باتت اليوم واقعاً أمام المستثمرين والمخاطرين برؤوس الأموال، وهي ربما تحقق بعض المكاسب في وقت ما، لكن وقت وقوع الخسارة، فإن التحذيرات تبدو ماثلة بالمثل الشعبي المعروف «اللي ما يطيع يضيع».