تناولت في مقال الأحد الولادة غير الشرعية لإسرائيل من رحم الاستعمار العالمي، في مرحلة تصفيته في ثوبه القديم (الاستعمار الاستيطاني) إلى نوع جديد من الاستعمار هو فرض السيطرة الأجنبية سياسيا واقتصاديا وثقافيا على الدول التي كانت تحت الاحتلال التقليدي، مع الاعتراف باستقلالها وسيادتها، وهي سيطرة تتم من خلال حكامها، في ظل نظام عالمي جديد تسيطر فيه دول الأفيال الاستعمارية على قرارات مجلس الأمن من خلال رفض (فيتو) أي قرار لا يخدم مصالحها الاستعمارية، وهو البديل للاستعمار التقليدي الاستيطاني الأقل تكلفة من احتلال أراضي الدولة، ولهذا كان استيطان إسرائيل في فلسطين من خلال قرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة في نوفمبر 1947 وإعلان المستوطنين الإسرائيليين دولة إسرائيل، ومبادرة مجلس الأمن إلى قبول انضمامها إلى الأمم المتحدة في عام 1949، وقد انتظرت دول كثيرة قبولها في عضوية الأمم المتحدة حتى عام 1956 وهي دول كانت نشأتها غائرة في التاريخ بل قبل التاريخ الميلادي لأن إسرائيل كانت دولة مصطنعة صنيعة الاستعمار العالمي في ثوبه الجديد إلى جانب آلياته الأخرى مثل البنك الدولي للإنشاء والتعمير، وصندوق النقد الدولي، اللذين سنفرد لهما مقالا مستقلا في استكمالنا لمنظومة الاستعمار العالمي الجديد، ونعود إلى:

فقدان شرعية الدولة

Ad

فالدولة في فقه القانون العام، سواء القانون الدستوري، أو القانون الدولي العام، كيان سياسي وإطار تنظيمي لمجتمع من المجتمعات ينظم حياته الجماعية وموضع السيادة فيه دستور يتضمن تنظيما للحكومة وصونا لحقوق أفراد الجماعة وبسطاً لسيادتها على إقليم ذي حدود معلومة ومعروفة، الأمر الذي تتكون فيه الدولة من أركان ثلاثة: شعب وإقليم وحكومة، وقد تخلفت أركان الدولة ومقوماتها في إسرائيل وذلك على النحو التالي:

الركن الأول: ركن الأرض

فالأرض التي أقيمت عليها دولة إسرائيل بقرار من الأمم المتحدة هي أرض عربية، لم يكن يملك اليهود سوى 5% من أرضها، اشتراها روتشيلد وعائلته، لهدف سياسي هو إقامة دولة يهودية عليها، ولم يكن على أرض فلسطين عندما فرضت عصبة الأمم المتحدة الانتداب البريطاني عليها سوى 84 ألف يهودي مقابل (670) ألف فلسطيني عربي، وذلك وفقاً لإحصاء أجراه الانتداب البريطاني في عام 1922، حتى أن بعض الأوساط البريطانية الاستعمارية وبعض الأوساط الصهيونية المعتدلة من بداية الانتداب البريطاني طرحت إقامة دولة ثنائية القومية في فلسطين وكان أبرزها كتاب صدر في لندن عام 1947 بعنوان (الوحدة العربية– اليهودية) كما قامت جمعيات يهودية معتدلة دعت إلى هذه الفكرة بعد ثورة فلسطين الكبرى عام 1937، وهو فكر بطبيعة الحال تم طمسه وطيه بعد إعلان دولة إسرائيل عام 1948، ثم عاد يتجدد وأخذ العرب يطرحونه باستحياء بعد أن استفحل الكيان الصهيوني في فلسطين وابتلع الاستيطان الأغلب الأعم من مساحة أراضيها، حتى أن العقيد معمر القذافي طرحه على طاولة قمة عربية، وإن كان هذا الطرح قد بدا للناس طرحا غريبا ومضحكا بسبب مسمى الدولة ثنائية القومية الذي أطلقه العقيد إلا أن عدد اليهود ظل يتزايد، حيث سمح الانتداب البريطاني على فلسطين تنفيذا لوعد بلفور البريطاني وشجع على هجرة اليهود من كافة أنحاء العالم إلى فلسطين، ومع ذلك لم يصل هذا العدد عند تقسيم فلسطين في عام 1947 إلى أكثر من 600 ألف يهودي مقابل 1.3 مليون من العرب، كان منهم 10% من المسيحيين (فلسطين السلام... لا التمييز العنصري، ص61- جيمي كارتر- الرئيس الأسبق للولايات المتحدة الأميركية)، ولم يبق من مساحة فلسطين عند انفجار طوفان الأقصى، سوى 365 كم2 في قطاع غزة، و5.860كم2 في الضفة الغربية والقدس الشرقية.

الركن الثاني: الشعب أو الأمة

ولم يبق من الفلسطينيين على المساحة الضئيلة المحدودة على أرضها عند انفجار طوفان الأقصى سوى 2.3 مليون فرد في قطاع غزة، منهم أطفال دون الثامنة عشرة، أي بنسبة 47% من عدد سكان القطاع، أبادت منهم الحرب على غزة حتى كتابة هذا المقال، ما يصل إلى سبعة آلاف طفل، فهم أطفال حجارة المستقبل ضد المحتل الإسرائيلي الذين يجب إبادتهم في المفهوم الإنساني للاحتلال الإسرائيلي، مقابل أطفال النور الإسرائيليين، الذين لهم وحدهم حق الحياة، وفقا لهذا المفهوم الضيق الذي ورد في حساب إسرائيل على «تويتر».

والفلسطينيون وحدهم الذين يتوافر فيهم ركن الدول على أرض فلسطين التاريخية وفقا للتعريف الفقهي لهذا الركن، بأن الأمة أو الشعب جماعة مستقرة على بقعة محددة من الأرض تجمعها صفات وثقافة ولغة مشتركة، أما اليهود فلم تتوافر لهم ضفة لاستقرار على الأرض وهي الصفة الأساسية للشعب على الإقليم في كيان الدولة القانوني.

وإذا كان الدين اليهودي هو الذي يجمع الشعب الإسرائيلي على أرض فلسطين، وكان الدين هو الأكثر تأثيراً من الجنس واللغة في الأمة الإسلامية، فإن الدين في إسرائيل لم يكن له مثل هذا التأثير في المجتمع اليهودي، وقضايا الدين في إسرائيل هي ما يهدد وحدة هذا المجتمع للبون الشاسع بين الثقافات والصفات بين الأجناس المختلفة القادمة من أوروبا وآسيا وإفريقيا للاستيطان على الأرض الفلسطينية قبل الانتداب البريطاني عليها وبعده، والذين ظلت أعدادهم قليلة كما أسلفنا عند قيام دولة إسرائيل، بالمقارنة بالإعداد الكبيرة للفلسطينيين الذين لم يحصلوا إلا على أقل من نصف مساحة أرض فلسطين التاريخية، في صحراء جرداء، وجزر معزولة عن بعضها مقابل أرض خصبة منحت للمهاجرين الجدد بعد الهدنة وقبلها.

ولعل قيام ونشأة الولايات المتحدة الأميركية من مهاجرين إنكليز وأوروبيين ومن إسبانيا والبرتغال، والعبيد القادمين معهم إلى أن تم تحريرهم بعد الحرب الأهلية الأميركية (1861- 1865) فأصبحت الولايات المتحدة الأميركية أمة مكونة من كل هذه القوميات، هي النشأة التي تتطابق مع نشأة إسرائيل ومكوناتها البشرية.

وقد صدق من أطلق على إسرائيل، أنها الولاية الثانية والخمسين لأن هذا الوصف لا يقتصر على الدعم المتزايد الأميركي لإسرائيل سواء الدعم المادي المالي والعسكري، أو الدعم المعنوي أو على حضانة أميركا لكل إرهاب واستيطان إسرائيلي وتوسع وعدوان، من خلال الفيتو الأميركي، والتطابق بين الكيانين في اغتصاب الأرض وإبادة سكانها الأصليين (الهنود والفلسطينيين).

الركن الثالث: الحكومة

والتي تعلن الدول اعترافها بها في بسط سيادتها على إقليمها (الركن الأول) أو على سكانها (الركن الثاني) وفقا لدستور تضعه السلطة الحاكمة أو يضعه شعبها كما تبسط هذه السيدة في تمثيلها في علاقاتها الخارجية، بالدول المختلفة سواء العلاقات السياسية، أو العلاقات التجارية أو الإنسانية وهو ما سنتناوله في مقال قادم بإذن الله، نناقش فيه قضايا الدين والدولة.