في الشهر الماضي كتبت عن الدور المركزي الذي تؤديه اتجاهات التضخم في التأثير على آفاق الاقتصاد العالمي في عام 2024 وما بعده، بطبيعة الحال، لا يخلو الأمر من المخاطر، ولهذا السبب يقوم مجتمع التوقعات بتحويط توقعاته بتحذيرات معقولة حول عدد كبير من «المجهولات المعروفة». بين أكثر هذه التحديات بروزاً الصراعات الجارية في الشرق الأوسط وأوكرانيا، وعدم اليقين بشأن الصين، والانتخابات التي تلوح في الأفق في أوروبا والولايات المتحدة وأماكن أخرى من العالم. فيما يتعلق بالتضخم، قدمت توقعات متفائلة بحذر استناداً إلى تقارير أخيرة أظهرت أن كثيراً من المؤشرات الأساسية تبدو وكأنها تتحرك في اتجاه واعد، لكن منذ ذلك الحين، جاءت أحدث بيانات التضخم الشهرية (لشهر ديسمبر) في منطقة اليورو، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة مفاجئة على الجانب الإيجابي، وقد حمل ذلك عدداً كبيراً من صناع السياسات والمستثمرين والمحللين على إعادة النظر في مواقفهم بعد أسابيع من إدراج الأسواق لتخفيضات كبيرة في أسعار الفائدة هذا العام. أخيراً، اختتمت كلامي بالإشارة إلى أنها ستكون مفاجأة سارة إذا استمرت مكاسب الأجور في كثير من البلدان، على الرغم من تحسن توقعات التضخم، من دون المساهمة في ارتفاع جديد وأكثر استدامة في الأسعار. بطبيعة الحال، لن يعول أغلب الاقتصاديين والقائمين على البنوك المركزية على هذا السيناريو ما لم ينشأ دليل واضح على الارتفاع المطلوب بشدة في الإنتاجية في مختلف أنحاء العالم الغربي (وخارجه)، ففي غياب إنتاجية إضافية يصبح من غير الممكن الحفاظ على مكاسب الأجور الحقيقية من دون أن تصبح تضخمية. مع ذلك، أجد نفسي متمسكاً بالأمل ذاته الذي راودني الشهر الماضي، ففي نهاية المطاف، تصل بيانات الإنتاجية متأخرة، لذا فمن الخطورة بمكان أن يتفاعل القائمون على البنوك المركزية بقوة أكبر مما ينبغي مع مكاسب الأجور المستمرة، كأن يعلنوا اعتزامهم الإبقاء على سياسة نقدية أكثر تقييدا مما كانوا ليفعلوا لولا ذلك، إذ ينطوي الأمر على ثلاثة أسباب وجيهة لتبني موقف الانتظار والترقب:

أولاً: على الرغم من فشل المتنبئين في توقع الضعف المستمر في الإنتاجية على مدار العقدين الأخيرين، يبدو أنهم لم يتخلوا عن الإشارة إلى التوقعات ببدء تعافيها إلا مؤخراً.

Ad

ثانياً: هناك أسباب واضحة تجعلنا نعتقد أن الإنتاجية ستتحسن في نهاية المطاف، حتى لو فقد أغلب الناس الأمل. ما علينا إلا أن ننظر إلى التطورات الكبرى في مجال الذكاء الاصطناعي، والتحول إلى الطاقات البديلة، والتغير في أنماط العمل منذ اندلاع الجائحة، وتركيز صناع السياسات المتجدد على المبادرات المصممة صراحة لتعزيز الإنتاجية. صحيح أن البيانات لم تُـظـهِـر بعد أن هذه التطورات بدأت تؤتي ثمارها، ولكن تستغرق المكاسب الناجمة عن التكنولوجيات الجديدة وقتاً طويلاً غالباً حتى تجد طريقها إلى الاقتصاد وإلى الإحصاءات الرسمية.

ثالثاً: وراء الامتناع عن تشديد السياسة النقدية يتعلق بالجوانب الاجتماعية والإنسانية لقضية الأجور والإنتاجية، وكما نعلم من المناقشات الدائرة حول مصادر القلق المتنامي وانعدام الأمن الاقتصادي في عديد من الديموقراطيات، فإن أداء الأجور الحقيقية المتوسطة كان هزيلاً في العقود الأخيرة، ومن الواضح أن هذا الاتجاه أدى دوراً كبيراً في خيبة الأمل المتنامية بين عامة الناس إزاء «الرأسمالية» و«العولمة»، وفي الدعم المتزايد الذي تتلقاه الأحزاب والحركات السياسية الأكثر تطرفاً وشعبوية، ويترتب على ذلك أن الزيادة في الأجور الحقيقية من شأنها أن تساعد في دفع المواقف السياسية إلى الاعتدال، أما قمع الأجور فهو أمر بالغ الخطورة.

ترى هل يستمر تحسن التضخم رغم أن أرقام التضخم في ديسمبرجاءت أعلى من المتوقع؟ لقد أظهرت الأشهر السابقة انخفاضات أكثر حدة من المتوقع، وإذا فحصنا المقاييس الأساسية الأكثر سلاسة لاتجاه التضخم، فضلاً عن الدراسات الاستقصائية لتوقعات التضخم، فإن التوقعات تظل واعدة تماماً. فيما يتصل بالعوامل الدورية الأخرى، تبرز ثلاثة أمور في اعتقادي ونحن نقترب من نهاية شهر يناير:

أولاً: تظل البيانات الاقتصادية الصينية وأداء الأسواق المالية مخيبة للآمال في عموم الأمر على الرغم من الجهود الأقوى التي تبذلها السلطات لدعم التعافي القوي.

ثانياً: في الولايات المتحدة، تستمر أغلب المؤشرات الاقتصادية بالظهور بشكل أقوى من المتوقع، وهو أمر يبعث على الارتياح، حتى لو لم يكن يخفف من حالة انعدام اليقين بين العديد من المعلقين الذين يساورهم القلق إزاء احتمال مفاده أن الاتجاهات الإيجابية الأخيرة قد لا تكون مستدامة، والأسواق أيضاً شهدت بداية متوترة لهذا العام، ووفقاً لما يسمى قاعدة الأيام الخمسة (حيث يبشر صافي الربح لمؤشر ستاندرد آند بورز 500 في أيام التداول الخمسة الأولى من يناير بالخير للأشهر الاثني عشر التالية)، فإن احتمالات أن يكون هذا العام إيجابياً للأسهم لا تتجاوز 50٪، صحيح أن هذه ليست حقيقة علمية، ولكن كما أشرت سابقاً، فإن البداية الإيجابية كانت تبشر بعام إيجابي في أكثر من 85 من الحالات، وعلى مدى عقود مضت.

أخيراً، على الرغم من القضايا المثيرة للقلق والانزعاج في الشرق الأوسط وأوكرانيا، ظلت تقلبات أسعار السلع الأساسية ضعيفة بدرجة ملحوظة، ولعل بعض عوامل العرض والطلب الفنية الغريبة تفسر هذا الأمر، ولكن أياً كانت الحال فإن الاستقرار النسبي يمكن ملاحظته في كثير من الأسواق، حيث انخفضت معظم أسعار السلع الأساسية، فضلاً عن مؤشرات السلع الرئيسة المعترف بها، مقارنة بالعام الماضي، وهذا أيضا أمر مطمئن بعض الشيء.

* الرئيس السابق لإدارة الأصول في غولدمان ساكس ووزير خزانة بريطاني سابق، ورئيس مجلس إدارة شاتام هاوس.

* جيم أونيل