يسطع نجم الأرجنتين هذه الأيام في سماء التحليل والمتابعة لدى العديد من المهتمين بالاقتصاد العالمي، وذلك مع انتخاب الرئيس اليميني الجديد خافيير ميلي مع نهاية العام الماضي، واتخاذه سياسات اقتصادية شديدة الصدمة لمعالجة إخفاقات متراكمة منذ نحو ربع قرن، أفضت في نهاية المطاف إلى دخول مرحلة التضخم الجامح بعد تجاوزه 200 بالمئة، في حين يعيش 40 بالمئة من الأرجنتينيين حالة من الفقر، فيما يتلقى 65 بالمئة من الشعب الأرجنتيني معونات ودعومات مالية واجتماعية، بالتوازي مع بلوغ الدَّين العام في الأرجنتين 90 بالمئة، مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي، في حين يناهز العجز المالي 10 بالمئة من الناتج نفسه.

قذافي لاتيني

Ad

ورغم أننا لسنا في معرض التعمّق في التاريخ الاقتصادي للأرجنتين أو ما يُعرف بـ «المفارقة الأرجنتينية» كنموذج لبلد حقق تطوراً متقدماً في مطلع القرن العشرين، لكنه شهد انعكاساً مناقضاً بعدها حتى لامس في مطلع القرن الحالي أزمة اقتصادية خانقة، فإنّ ما يستحق التحليل هو كيف يمكن للإجراءات الاقتصادية والمالية المسمومة أو القاسية أن تفرض نفسها حال إهمال اتخاذ سياسات الإصلاح الاقتصادي خلال السنوات السابقة، فضلاً عن دور أزمات الاقتصاد في تسهيل وصول أحزاب اليمين المتطرف إلى السلطة، إذ يصف كثيرون الرئيس ميلي بأنه «قذافي أميركا اللاتينية»، خصوصاً أنه طالما وصف نفسه بـ «الرأسمالي الفوضوي»، الذي سيعالج تدهور الاقتصاد بـ «الصدمة»!

قرارات صادمة

وفور وصوله إلى السلطة، اتخذ ميلي مجموعة من القرارات الصادمة، من دون اعتبار لنتائجها على المجتمع، خصوصاً من نواحي البطالة والتضخم وانفلات الأسعار وزيادة الفقر، إذ أطلق في أول أسبوع من حكمه برنامجاً تضمّن خطة خصخصة شاملة تضمن تحويل الشركات المملوكة للدولة جميعها إلى شركات عامة محدودة، ليتم بيعها في وقت لاحق، وعلى رأسها الخطوط الجوية الأرجنتينية، بالتوازي مع إلغاء الدعم عن المرافق والنقل وزيادة الضرائب، فضلاً عن تحرير خدمات الإنترنت عبر الأقمار الاصطناعية للسماح لشركة سبيس إكس ستارلينك بالعمل في الأرجنتين، وإلغاء ضوابط الأسعار على برامج الرعاية الصحية، وإلغاء قانون الإيجار الحالي الذي يحدّ من ملكية الأراضي للأجانب، تمهيداً لبيعها، إلى جانب تخفيض قيمة البيزو لنصف قيمته.

أكثر قسوة

ويراهن ميلي على اتخاذ إجراءات إضافية أكثر قسوة، كخفض معاشات التقاعد، وتقليص إعانات دعم الوقود، والتحول إلى الدولرة، عوضاً عن العملة الوطنية، فضلاً عن أفكار غريبة تناسب تطرّفه اليميني وتصريحاته «الترامبية»، كرغبته في إلغاء البنك المركزي الأرجنتيني... كل هذا بهدف بدء السيطرة على التضخم في فترة ما بين 18 و24 شهراً، من دون إعطاء تصورات أوضح لنتائح الخطط الاقتصادية الأخرى.

سبب ونتيجة

ودون التوسع في استعراض سياسات ميلي، فما يهمنا هو الدروس أو العِبَر ممّا آل إليه وضع الأرجنتين التي تتلخص في جزئيتين متداخلتين كسبب ونتيجة، هما أن إهمال الإصلاح الاقتصادي لمدد طويلة سيُفضي إلى تبنّي سياسات منحرفة ومسمومة معظمها يحمّل المجتمع مسؤولية الإخفاق الاقتصادي والمالي، وهو ما يجعل كثيرين في الكويت وحتى في بعض دول مجلس التعاون الخليجي، يميلون إلى الترويج لنصائح اقتصادية مسمومة تهدد شبكة الأمان الاجتماعي.

رواج وأزمات

فطالما تصاعدت خلال السنوات الماضية مطالبات تدعو إلى الخصخصة، كبيع للأصول العامة، من دون اعتبار لمدى خبرة الدولة في إدارة المنافسة أو فرض معايير لجودة الخدمة، إضافة إلى العوائد المالية والاقتصادية، فضلاً عمّا تضيفه أي عملية خصخصة لفرص العمالة الوطنية، أو العمل على إقرار ضرائب غير عادلة على المجتمع، أو استهداف دعومات الطبقة المتوسطة، أو الدعوة إلى استنساخ نماذج مالية واستثمارية عالمية أو خليجية لا تناسب طبيعة النظام الاجتماعي والسياسي والإداري في البلاد.

وفضلاً عن تنامي الطرح الفئوي العنصري تجاه الوافدين أو أبناء الوطن الواحد أنفسهم، فإن كل هذه المقترحات ذات الآثار المسمومة تلقى رواجاً عند متخذي القرار خلال الأزمات، خصوصاً إذا أضاعت الدولة فرصة الإصلاح السهل وذي التكاليف الاقتصادية والاجتماعية المحدودة في ظل البحبوحة المالية.

ضحايا الإهمال

يخبرنا التاريخ الحديث عن دول تدهورت بسبب إهمال سياسات الإصلاح الاقتصادي والإداري المرتبط بالسياسي، فتفاقمت أوضاعها، مثل زيمبابوي ولبنان وسريلانكا، حتى تعثّرت سداد الديون، أو حتى دول نفطية لم تسلم من التدهور الذي ابتلع ثرواتها المالية، مثل فنزويلا والإكوادور والعراق وليبيا، أو دول مرشّحة أن تكون على لائحة الدول المتعثّرة أو المتدهورة، كمصر وتونس وباكستان وروسيا البيضاء، وهذه في معظمها دول حمّلت المجتمع مسؤولية سنوات طويلة من الإخفاق الاقتصادي والفساد السياسي والمالي.

مقارنة وعظة

ربما يعتبر البعض أن مقارنة أوضاع الكويت مع دول الانهيار الاقتصادي فيه قدْر ما من المبالغة، ومع تجاوز فكرة أن الأرجنتين كانت حتى فترة ما بعد الحرب الثانية ضمن قائمة أغنى الاقتصادات في العالم، كأفضل من اقتصادات الصين واليابان وألمانيا وفرنسا وإيطاليا، فإننا في الكويت أفرطنا خلال ربع القرن الأخير في تحديد تضخّم النفقات المالية وتقويض سوق العمل وتضييع الفوائض في الإنفاق الجاري إخفاقات لا يمكن حصرها في ملفات تنويع الاقتصاد، أو حتى وضع سقف للمصروفات، بل إن خدمات أساسية، كالتعليم والصحة والسكن والطرق، التي تعد أدنى التزام لدى أي دولة بات تدهورها واضحاً، رغم زيادة الصرف عليها، وبالتالي فمن لم يتّعظ من حالات متعددة من أمراض الاقتصاد سيُسقى من الحلول المسمومة التي تلقى الكثير من الرواج خلال الأزمات.