الفوز الحاسم الذي حققه دونالد ترامب في المؤتمرات الحزبية في ولاية أيوا، وتصدره الانتخابات التمهيدية المقبلة، ينبغي أن يضع حداً لأوهام «الجمهوريين» الذين يأملون إنقاذ حزبهم من براثنه، إذ إن أعداء الرئيس السابق لا يفهمون سيطرته على الناخبين. يتصرف المنادون بشعار «لا لترامب مرة أخرى» والعديد من «الديموقراطيين» المؤسسيين كما لو كانت المشكلة تكمن في الرجل فقط، وأنه لو أمكن هزيمة ترامب أو إقصاؤه لأصبح كل شيء على ما يرام، لكن ترامب يمثل مشكلة راسخة.

ومع ذلك، وعلى الرغم من الجهود الحثيثة التي بذلها الكثيرون لتشويه سمعته أو إزاحته، فإنه أصبح أكثر قوة، وهناك سببان رئيسان لهذا الفشل:

أولاً، يتجاهل أولئك الذين يسعون إلى عزله أن دعمه يرتكز على السخط العميق الذي يعود إلى ما قبل ظهوره على المسرح السياسي الوطني.
Ad


ثانياً، تنبع الهجمات ضد ترامب من المؤسسات والأفراد أنفسهم الذين استهدفهم، ولم تؤدّ إلا إلى تعزيز شعبيته بين مؤيديه، وترامب ليس الديماغوجي الأول الذي يقود حركة شعبوية يمينية.

وقد مهدت حركة «حزب الاستقلال الأميركي» العنصري بقيادة الحاكم «جورج والاس» في السبعينيات، وحركات الأغلبية الأخلاقية- التحالف المسيحي في أواخر الثمانينيات، و«لواء المذراة» بقيادة «بات بوكانان» في عام 1988، و«حزب الشاي» المناهض لأوباما وحركة «بيرثر» (أو بلد المولد) العنصرية- كل هذه الأمور مهدت الطريق لصعود ترامب، مما أدى إلى ظهور هذه الحركات كان أكثر من نصف قرن عندما عانى العديد من الأميركيين، ومعظمهم من البيض وأبناء الطبقة المتوسطة العاملة، اضطرابات اجتماعية وسياسية وثقافية وفقدان مقلق للسيطرة على حياتهم ومستقبلهم.

كانت فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي مؤلمة بشكل خاص للعديد من الأميركيين مع ظهور ثلاث حركات تحويلية هزت المجتمع والسياسة والثقافة: حركة الحقوق المدنية التي يقودها السود، والحركات المثيرة للانقسام العميق المؤيدة والمعارضة للحرب في فيتنام، وثورة ثقافية قلبت الأعراف الاجتماعية المقبولة رأساً على عقب.

في أعقاب هذه الحركات، كان رد فعل ما أسماه الرئيس آنذاك ريتشارد نيكسون «الأغلبية الصامتة»: حوادث عنصرية صريحة أو الخوف من العنف بدوافع عنصرية، ومظاهر فرط الوطنية أو فقدان الثقة في البلاد ومؤسساتها والقيم المعلنة، وعدم الشعور بالتغيير الاجتماعي والثقافي الجذري.

وعلى مدى خمسين عاماً، كان رد فعل الأميركيين على هذه التغييرات المجهدة يتمثل بمظاهر الخوف ذات الدوافع العنصرية من «الآخرين»، والوطنية المفرطة أو إضفاء الطابع الرومانسي على«الماضي العظيم» لأميركا، واللجوء إلى احتضان المعتقدات الدينية الأصولية.

وقد أدى الانهيار الاقتصادي في الفترة 2008-2009 وانتخاب باراك أوباما إلى الجمع بين هذه الخيوط، مما مهد الطريق لظهور ترامب، وفي غضون أسابيع اختفت معاشات التقاعد، وتضاعفت معدلات البطالة، وارتفعت حالات حبس الرهن العقاري إلى عنان السماء، فبعد انتخاب أوباما انقض الجمهوريون على «عرقه» و«غربته» مما أثار تساؤلات حول ما إذا كان أوباما أميركياً أم لا، مع كون ترامب المؤيد الرئيسي لهذا الجنون، ومع إرساء هذه الشروط المسبقة، دخل ترامب كفنان بارع قادر على استغلال مخاوف الناس وانعدام شعورهم بالأمان وإظهار القوة واليقين اللذين يتوقون إليهما.

وهو يحذر من المهاجرين الذين يجلبون العنف ويستولون على الوظائف، ومن المؤسسات التي كانت تحظى بالاحترام في السابق، مثل تطبيق القانون والمحاكم ووسائل الإعلام، وبعد عقد من الزمن، سيطرت حركته على الحزب «الجمهوري» وربما تستعيد البيت الأبيض، وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها المؤسسة «الجمهورية» و«الديموقراطيون»، فإنه أصبح أقوى، وتعتمد جهودهم لمحاسبته على المؤسسات نفسها التي يتهمها بالتآمر ضده.

فمن خلال التشكيك في نزاهة المحاكم ومكتب التحقيقات الفدرالي، ووسائل الإعلام، و«الديموقراطيين» بالطبع، يقوم ترامب بتحصين نفسه، ومن خلال إقناع أنصاره بأنه وحده الذي يفهم آلامهم ومخاوفهم وإحباطاتهم، ويستطيع الدفاع عنهم، فإن الهجوم عليه يصبح هجوماً عليهم، وهؤلاء يتعلقون به طلباً للأمن واليقين، وموقفهم لن يتغير رغم الإدانات والمحاكمات المتزامنة بتهمة الاحتيال المالي والتحريض وسوء التعامل أوحيازة غير قانونية لملفات حكومية سرية.

قد يخسر ترامب هذه الانتخابات، لكن حركته ستستمر في تشكيل تهديدات، بما في ذلك العنف، وربما أعظم من التهديد الذي شهدته الانتخابات في 6 يناير 2021.

لا يمكن التسامح مع الفوضى وأعمال التعصب، وفي حين أن العقاب مطلوب فإن مجرد هزيمة ترامب ومعاقبته لا يكفيان، وبدلاً من تحقير أنصار ترامب أو مهاجمتهم، هناك حاجة إلى بذل جهود متضافرة لمعالجة القضايا التي تكمن وراء شعورهم بعدم الأمان والسخط، وإن إيجاد حلول تقدمية بناءة تظهر الاحترام والاهتمام لن يحدث بين عشية وضحاها، ولكن إذا لم يتم بذل الجهود في هذا الاتجاه، فإن «الترامبية» لن تتفاقم فحسب بل ستنمو.

* رئيس المعهد العربي الأميركي في واشنطن.