مثّلت موافقة لجنة الأوراق المالية والبورصات الأميركية (SEC) الأسبوع الماضي على ترخيص 11 صندوقًا استثمارياً متداولاً لـ «بتكوين» تحوّلاً كبيراً في عالم العملات الرقمية أو المشفرة من ناحية توفير فرص رسمية للمستثمرين للتعرّض للعملة عبر أدوات مالية يتم تداولها في بورصة مرخصة تخضع للرقابة التنظيمية.

فبعد رفض لجنة «SEC»، الذي استمر نحو عقد من الزمن لعشرات الطلبات منها نحو 20 طلبا لصناديق متداولة لـ «بتكوين» في الفترة بين عامَي 2018 و2023 بسبب ما اعتبرته اللجنة أن «بتكوين» وغيرها من العملات الرقمية ليست أصولا قابلة للتداول، لكن إحدى شركات العملات الرقمية، وهي شركة جراي سكيل، كسبت في أغسطس عام 2023 دعوى ضد قرار لجنة البورصات الأميركية برفض طلب ترخيص صندوق متداول لـ «بتكوين»، مما أخضع اللجنة لضغوط أكبر أفضت للموافقة على 11 صندوقًا استثماريًا متداولًا لـ «بتكوين» الأسبوع الماضي، لتبدأ التعاملات فوراً بقيادة شركات متعددة، أبرزها «بلاك روك» و»فيديلتي» و»جراي سكيل»، وغيرها من شركات إدارة الأصول العالمية، ليصل إجمالي التعاملات خلال أول 48 ساعة إلى 7 مليارات دولار.

Ad

ومع أن القرار صدر من لجنة الأوراق المالية والبورصات (SEC)، إلا أن رئيسها غاري جينسلر، رفض أن تعتبر الموافقة تأييدًا لعملة بتكوين، واصفًا إياها بأنها «أصل للمضاربة ومتقلّب».

وفي الحقيقة، فإن قرار لجنة «SEC» يستحق التحليل لمعرفة مدى أثره على سوق العملات المشفرة عالميا، خصوصا على المدى الطويل من عدة زوايا أهمها:

خضوع للقيود

- صحيح أن ترخيص «SEC» للصناديق المتداولة والمتتبعة لـ «بتكوين» أعطى دفعة لعالم العملات المشفّرة، مما قد يزيد الاهتمام المتزايد بها الى ما هو أوسع من الاستثمار، لتصبح يوما ما إحدى الأدوات المقترحة في التمويل مثلا، لكنّ الأمر ليس بهذه البساطة، فإدراج الصناديق المتداولة لـ «بتكوين» جاء بعد أن وضعت بورصتا ناسداك وشيكاغو آلية لمراقبة السوق، بالتعاون مع منصة تداول العملات المشفرة (كوين باس) لمعالجة مخاوف التلاعب، وما يفتح المجال للتساؤل حول مسألة «اللامركزية» أو الاستقلالية التي طالما اعتبرها مؤيدو العملات المشفرة ميزة خارج إطار النظام المالي العالمي، ولاشك في أن القيود التنظيمية والرقابية ستكون مواكبة لأي تطوّر يتعلق باستخدام هذه العملات في خيارات أوسع من صناديق الاستثمار المتداولة مستقبلا، مثلا التمويل أو التجارة الدولية.

وكلما زادت القيود التنظيمية، فإن ما يُعرف بـ «اللامركزية» أو الاستقلالية التي تتصف بها العملات المشفّرة ستتراجع، لتتحول مع الوقت الى «أصل» خاضع للنظام المالي العالمي بكل ما فيه من تنظيم البورصات العالمية وقيود البنوك المركزية، وهو ربما خفض أسعار «بتكوين» منذ أول أيام إدراجها في التعاملات الصناديق المتداولة حتى صباح يوم أمس بواقع 8 بالمئة، لكنّ هذه الفرضية تبقى قيد التقييم، خصوصا في ظل ما عُرف عن العملات المشفّرة من تقلبات حادة لأسعارها، فضلا عن مدى قدرة التنظيم على «تهذيب» تذبذبها.

تمدد الرقابة

وعطفاً على النقطة السابقة، فإن القيود التنظيمية لا تقتصر فقط على شفافية بيانات التداول، إنما هي قابلة للتمدد الى نطاقات أوسع تقوّض الفكرة التي تقوم عليها العملات المشفرة، وهي «اللامركزية» أو الاستقلالية، والمقصود تحديدا الآثار البيئية المتعلقة بتعدين العملات المشفّرة التي تستهلك كميات كبيرة من الكهرباء، خصوصا في البلدان المكتظة بالسكان، إذ تشير دراسة أجرتها الأمم المتحدة في نوفمبر الماضي الى أن غالبية الكهرباء المستخدمة في تعدين العملات المشفرة تأتي من الوقود الأحفوري. وبالتالي، فإن العملة المشفّرة تضغط بشدة على البيئة والمناخ، حيث يستهلك 173 تيراواط في الساعة بتعدين الـ «بتكوين» في 76 دولة بين عامَي 2020 و2021، أي أكثر بنسبة 60 بالمئة مما كانت عليه في الفترة من 2018 إلى 2019، كما انبعث خلال نفس الفترة حوالي 86 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون عبر عمليات تعدين «بتكوين».

الجانب الأمني

أما الأثر الثاني غير الاستثماري، فيرتبط بأثر القيود التنظيمية على الجانب الأمني، خصوصا من جهة مكافحة الاحتيال المالي وعمليات تمويل الجريمة والإرهاب وغسل الأموال، وهي ثغرة أمنية واجهت منصات العملات المشفرة كان من أهم نتائجها إفلاس منصة ftx للعملات المشفرة قبل عامين، فضلا عن سرقة العديد من المنصات بمليارات الدولارات سنويا، ولم تسلم منها حتى أكبر بورصة عملات مشفرة بالعالم، وهي منصة بينانس، مما يجعل فرض القيود التنظيمية من النواحي الأمنية أمرا ضروريا في طريق تحوّلها لأداة استثمارية ذات مشروعية، فضلا عن أي تطوّر في استخدام العملات المشفرة في عمليات التمويل أو التجارة سيفرض المزيد من القيود الإضافية التي لم تكن موجودة سابقا.

ليست عملة

ومع أن إدراج لجنة «SEC» أحد عشر صندوقًا استثماريًا متداولًا لـ «بتكوين» يعدّ تحولا كبيرا في عالم العملات الرقمية أو المشفرة، إلا أنه لا يغيّر من حقيقة أن هذه العملات المشفرة ذات المخاطر العالية لا تمتلك خصائص العملة وصفاتها، فهي ليست وعاء ادّخار أو مخزنا للقيمة مثل أي عملة حقيقية أخرى كالدولار أو اليورو أو الإسترليني، كما أنها ليست وسيلة تبادل في المعاملات التجارية والفردية أو أداة لتسعير السلع والمنتجات، فضلا عن كونها مجهولة المصدر، فهي لم تصدر لا من دولة ولا منظمة ولا حتى شركة معروفة، وبالتالي تفقد هذه السلعة صفة العملة المتعارف عليها... لذلك فهي أمام طريق طويل للتحول من النقاش حول ماهيتها إن كانت فقاعة أو على الأقل أصلا عالي المخاطرة، قبل أن يبدأ النقاش حول تقبّلها كعملة.