السؤال الذي طرحه «العم يعقوب يوسف الحمد» قبل سنوات طويلة وعقود ممتدة، عام 1952، لا يزال يطرح في الكويت منذ ذلك الحين، وخصوصاً أن السؤال كان عنوان كتاب: «ماذا نريد من حكومة الكويت؟»، وقد بقي السؤال منذ ذلك الوقت دون جواب تفصيلي واضح.

يعقوب يوسف الحمد (1924- 2020) أحد أوائل المفكرين في مستقبل الكويت ما بعد النفط وفي ميدان الكتابة والتنظير واستقصاء المشاكل القادمة في ركاب أي تطور اجتماعي واقتراح الحلول لها قبل أن تستفحل ويصعب علاجها.

Ad

يواصل الباحث النشط «حمد عبدالمحسن الحمد» بدراسته القيمة هذه في حياة وفكر الراحل «يعقوب يوسف الحمد»، عطاءه الثقافي المعروف وإضافاته الحقيقية للمكتبة الكويتية، وقد قام الباحث بإعادة نشر كتاب «ماذا نريد من حكومة الكويت؟» الذي كتبه يعقوب الحمد قبل أكثر من سبعين سنة عام 1952 في أوائل حياته العملية، حيث قام بإعداد الكتاب وهو في «بومبي» بالهند، المدينة التي كانت مقر الكثير من الأسر الكويتية التجارية منذ عقود.

يعرض المؤلف حمد عبدالمحسن الحمد في بداية الكتاب الحالي ملخصاً سريعاً لحياة «يعقوب الحمد» التي امتدت أكثر من تسعين عاماً، ويبين أنه درس الثانوية في البصرة ودرس تخصص التجارة في جامعة فؤاد الأول بمصر، وسرعان ما انهمك بعد التخرج في الإدارة بمجلس المعارف الجديد في الكويت عام 1954، مشاركاً في رسم السياسة التعليمية، واختيار المدرسين في مصر وسورية ولبنان وغيرها، واختير عضواً في مجلس التخطيط عند إنشائه في 1962، كما كان في اللجنة الاستشارية للشؤون الاستثمارية وكان عضواً في مجلس إدارة البترول الوطنية ومجلس النقد الكويتي وبنك الكويت الوطني وإدارة غرفة التجارة.

ويعد يعقوب الحمد أحد مؤسسي شركة السينما الكويتية وعضو مجلس إدارتها عام 1955، وشارك عام 1966 مع اللجنة التي وضعت الدراسات لتأسيس جامعة الكويت، وأحد مؤسسي النادي الأهلي الرياضي الكويتي عام 1952، ولدى استقراره في الكويت أسس يعقوب الحمد فيها العديد من المؤسسات والشركات ومنها شركة الحمراء للمقاولات وغيرها.

ولأسرة الحمد مساهمات معروفة في مختلف جوانب المجتمع الكويتي، وتقول الباحثة «حصة عوض الحربي» في كتابها «تاريخ العلاقات الكويتية– الهندية»، فيما ينقل عن كتابها الباحث «حمد عبدالمحسن» أن تجارة العائلة كانت في البن اليمني والسجاد الإيراني، وتم تأسيس مكاتب تجارية للعائلة في كل من الكويت وعدن والبصرة وبومبي، وشغلت التجارة شراء مختلف البضائع الهندية وتصديرها لعدن أو الكويت والعراق والدول الخليجية وإيران.

كان يعقوب الحمد في الثامنة والعشرين من العمر عندما أصدر كتابه «ماذا نريد من حكومة الكويت؟»، بصفحاته الــ130، ويعدّ أول كتاب يصدره طالب كويتي، إهداء «كتاب يعقوب» قد يُـعد من أغرب الإهداءات جلباً للانتباه ومحاولة صريحة لإعلان استقلاله في آرائه حتى عن شريحته الاجتماعية التجارية، فالكتاب مقدم «إلى الذين وهبوا حياتهم لخدمة الجميع، ورفع شأن البلاد، لا الأقارب والأفراد».

كان كتاب الحمد «ماذا نريد من حكومة الكويت؟»، ثاني كتاب تتبناه مجلة «البعثة» الناطقة باسم أوائل الخريجين الكويتيين النخبة التي بدأت بناء الكويت المعاصرة، ولهذا اختتم يعقوب الحمد مقدمة الكتاب متمنياً «أن تثير هذه الصفحات بعض النقاش والجدل في محيطنا، فإننا في أشد ما نكون اليوم إلى هذه الروح التي تحتاجها كل أمة وخاصة في مطلع نهضتها»، وكانت السنة عامذاك 1952 في بدايات انهمار الثروة النفطية وتشكل ملامح الدولة الجديدة.

ابتعد يعقوب الحمد في كتابه عن اللغة الاقتصادية الصعبة الفهم وأساليب الشرح المعقدة، إذ كان يدرك أنه لا يخاطب مسؤولي الحكومة الكويتية وحدهم، بل كذلك عامة الشعب وبخاصة «الذين وهبوا حياتهم لخدمة الجميع ورفع شأن البلاد» كما أكد في الإهداء، وحسناً فعل الباحث «حمد عبدالمحسن الحمد» الذي ضم إلى الكتاب كذلك مجموعة من المقالات الصحافية ليعقوب الحمد التي تضيف الكثير إلى كتابه، ولا مجال في هذا المقال للأسف للتوسيع كثيراً في اقتباس ما جاء في الكتاب نفسه، في هذه المقالات من أفكار واقتراحات وانتقادات شملت سائر مجالات النهضة، ومنها التعليم ومشكلة السكن وقضية الهوية والجنسية، بل تناول حتى فكرة النهوض بحياة العمال الاجتماعية، وكان تعريفة للعمال يشمل خاصة العاملين في النشاطات البحرية.

يقول «حمد عبدالمحسن الحمد» إن المؤلف «يعقوب» قام بتقسيمهم إلى أربع فئات: «فئة بحارة السفن الشراعية الكبيرة المستعملة للملاحة الخارجية، وفئة بحارة السفن الشراعية المتوسطة والصغيرة المُستعملة للغوص على اللؤلؤ في الخليج، والفئة الثالثة هي فئة بحارة السفن الشراعية المتوسطة المُستعملة لعمليات النقل، وفئة أخيرة هي بحارة السفن الصغيرة المُستعملة لصيد الأسماك». (كتاب يعقوب يوسف الحمد، ص58).

واقترح العديد من خطوات تحسين الحياة المعيشية والمهنية لهؤلاء، بما في ذلك إنشاء النقابات وإدارة حكومية خاصة وتحديد ساعات العمل والإجازات الأسبوعية وتنظيم إجراءات التحكيم في المنازعات. (ص 172)، وفي اقتراح لحل مشكلة الإسكان عموماً، قال إن الحكومة: «يجب أن تكلف دائرة الأشغال بأن تأخذ أرضاً واسعة من أراضيها الواقعة خارج السور، في أي منطقة مناسبة كانت، وتخطط في هذه الأرض، قرية نموذجية صغيرة، بأسواقها، وحوانيتها، ومساجدها، وملاعبها وعياداتها، ومحال خدماتها الاجتماعية... إلخ. وتؤجر هذه المساكن الصغيرة المناسبة التي تتراوح غرفها بين الثلاث والخمس إلى صغار موظفيها، وإلى من يرغب من أفراد الشرطة والعمال وغيرهم من طبقات الشعب المحتاجين لأمثال هذه المنازل للسكن بأجور زهيدة اسمية». (ص248).

واختار «يعقوب الحمد» موقفاً متحفظاً في قضية الهجرة والتجنيس مبيناً ضرورة التريث في النمو السكاني وبخاصة أن الآلات، كما نبّه القراء، ستحل قريباً مشاكل الأيدي العاملة، وقال: «ونحن مقبلون على نهضة، سريعة، إصلاحية وإنشائية، وعمرانية شاملة، والأيدي العاملة عندنا لا تكفي للقيام بهذه المشاريع، ولا نرغب في أن نفتح أبواب بلادنا على مصاريعها لهجرة الأجنبي من جميع الأقطار، وخاصة من كان منهم مستواه عادياً، وليس فنياً، أو إخصائياً، أو خبيراً، أو صاحب رأس مال، فنتائج هذه الهجرات وخيمة على مصالح البلاد في المستقبل، وفي المستقبل القريب أيضاً، وإذا كان لا بد من دخول الأجانب لاحتياجنا إليهم في الوقت الحاضر، فيجب أن يعاملوا، كما يعامل الكويتي في بلادهم، ويمنحوا إقامات قصيرة، تجدد من آن لآخر، ولا يسمح لهم بالإقامة المستديمة إلا إذا وجب ما يلزم ذلك.

ويجب أن نعمل إحصائيات سنوية عن الأجانب في البلاد، وإلى أي البلاد ينتمون، بحيث نقارن ونناسب بين عددهم، وعدد سكان البلاد الأصليين لنحفظ التوازن والنسبة بين الأجانب وأهل البلاد، ولا نسمح بالدخول في بلادنا إلا لفئات قليلة من الجنسيات التي أصبح عددها كبيراً في البلاد، فأصبحت تزاحم الوطني في عمله، وتهدده في المستقبل في عقر داره...». (ص259).

واهتم «يعقوب الحمد» بالمرأة كذلك في دولته النموذجية التي رسم معالمها قائلاً: «في بلاد صغيرة، قليلة السكان كالكويت، إذا لم تتعاون المرأة والرجل على العمل والإنتاج العام، فإن نشاطها، وجهودها ستبقى محدودة». (ص272)، ولم يطغ التفاؤل عليه، فقد تنبأ بانصراف المرأة الكويتية مثلاً عن مهنة التمريض كما هي الحال اليوم مقترحاً شرطاً وهو «أن تتعهد كل طالبة ستلتحق بهذه الدورة، بأن تخدم الصحة بعد تخرجها، خمس سنوات على الأقل، خوفاً أن تتزوج بعد تخرجها، فتهجر سلك ملائكة الرحمة...». (ص80)، ودعا إلى «فتح مدرسة للمعلمات، وإغراء الفتيات مادياً أثناء سني الدراسة لكى نستطيع تخريج مدرسات كويتيات يجارين سرعة الإقبال على التعليم عندنا». (ص 83).

كيف كانت رؤية «يعقوب الحمد» لمسألة إزالة المباني القديمة؟ الواقع أنه اهتم كثيراً بالجوانب الاقتصادية وفكرة البنك الوطني والتجارة ومشاكل البنية التحتية ومنح سلف للمحتاجين من السكان والعناية بالقرى، بل حتى «منح قروض لبعض إمارات الخليج وساحل عُمان وجنوب الجزيرة» ونشر التعليم فيها، لكنه لم يقف موقناً متسامحاً من «سور الكويت» فرأى في إزالته مفتاحاً لحل مشكلة ارتفاع أسعار الأراضي وطالب في كتابه «بإزالة السور نهائياً من الوجود»، واعتقد أن وجود السور يمنع امتداد العمران في المدينة، ولهذا فإن إزالة السور ضرورية كما اعتقد مع الكثيرين، من أجل تجديد خريطة مدينة الكويت وانخفاض أسعار البيوت والأراضي وارتفاع أثمان الأراضي الخارجية نسبياً، ولكي تكون الفكرة أكثر فائدة وقبولاً، اقترح «استعمال الطين الناتج من هدم السور لدفن وردم الحفر والمنخفضات الموجودة داخل السور لأنها مضرّة صحيا». (ص314).

كنا سنخسر الكثير في مجال الفكر التنموي وتاريخ العمران في الكويت لو لم يضع الراحل «يعقوب يوسف الحمد» في كتابه «ماذا نريد من حكومة الكويت؟» كشاهد على المرحلة الأولى، وساهم بمقالاته وأفكاره في مختلف المجالات إذ قدم في كتابه ومقالاته الصحافية نظرة بانورامية شاملة وتصورات متكاملة للنخبة الكويتية وعموم المهتمين آنذاك بما تحمله الثروة المتدفقة من التحديات والمفاجآت للمجتمع الكويتي، وقد برهنت الأيام على أن الكثير من هذه الأفكار والمقترحات والمخاوف كانت في محلها.