مع مطلع العام الذي يوشك على الانقضاء، وتحديداً في اليوم الأخير من التجمع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي «WEF»، الذي انعقد في يناير الماضي، حلقت «النخبة» الاقتصادية العالمية بنحو 1000 طائرة داخل وخارج المطارات القريبة من «دافوس» خلال أيام الاجتماع، لا لشيء، إلا ليتلقوا أغلى الهدايا من نشطاء المناخ، الذين اجتمعوا خارج قاعات المنتدى الفخمة، منددين بـ «عدم اتخاذ أغنى وأقوى الناس في العالم، الذين انضموا إلى المنتدى الاقتصادي العالمي، خطوات ملموسة في مواجهة الأزمة البيئية الملحّة مخيب للآمال، ولن نظل صامتين حتى تتخذ الحكومات إجراءات بشأن أزمة المناخ».

لم تكن الهدية التي قدمها نشطاء المناخ للنخبة، تتمثل فقط في توفير ممر آمن لها للتملص من التزاماتها تجاه القضايا الأساسية التي لا تستطيع النخب الاقتصادية وصناع السياسات إيجاد حلول عاجلة لها، والكثير من الملفات الحرجة، وأتى على رأسها، حينها، تضاعف معدلات التضخم التي وصلت إلى حدود 9 في المئة بعد أن كانت 4.7 في المئة 2021.

Ad

وما استتبعه، من إجراءات ما زالت تنذر بحدوث ركود اقتصادي عالمي، إضافة إلى تداعيات العملية العسكرية في شرق أوروبا وما استجد الآن من التصعيد العسكري في الشرق الأوسط وما لهما من آثار وخيمة على الاقتصاد العالمي بشكل عام والاقتصادات النامية على وجه التحديد، إنما تمثلت الهدية أيضاً في تمهيد الطريق لفرض نوع جديد من الاقتصاد على الدول النامية وترسيخ دعائمه، وهو الاقتصاد الأخضر.

بدأ أول تقييم عالمي لهذا النوع من الاقتصاد في اتفاق باريس التاريخي في عام 2015 حين تعهد المجتمع الدولي ممثلا بـ195 دولة شاركت في هذا المؤتمر وخاضت مفاوضات صعبة للتوصل إلى هذا الاتفاق- بحصر ارتفاع درجة حرارة الأرض وإبقائه «دون درجتين مئويتين»، و»بمتابعة الجهود لوقف ارتفاع الحرارة عند 1.5 درجة مئوية». بعد تأكيد دول واقعة على جزر مهددة بارتفاع مستوى البحر أنها ستصبح في خطر إذا تجاوزت حرارة الأرض 1.5 درجة مئوية.

بعدها وجد الاقتصاد الأخضر ضالته في 2020 مع تفشي جائحة كوفيد 19، مستنداً إلى حتمية تبني سياسات اقتصادية قائمة على الاستدامة وحماية المناخ والبيئة، وفي خضم التحديات الجمة التي يواجهها الاقتصاد العالمي وفي ظل حتمية وجود نظام عالمي جديد، كان لابد أن يأتي الحل، أيضاً، من هناك، من فوق ذلك الجبل الساحر «دافوس»، لتنعقد الدورة السابعة والعشرون من مؤتمر الأطراف cop27 في منطقة الشرق الأوسط بمنتجع شرم الشيخ المصري، وهو المؤتمر الذي شارك فيه قادة وزعماء وممثلون مما يقرب من 200 دولة، واستهدف توضيح قواعد ميثاق المناخ العالمي الجديد، واتخاذ إجراءات بشأن مجموعة من القضايا المناخية، منها: الحد بشكل عاجل من انبعاثات الاحتباس الحراري، وبناء المرونة، والتكيف مع الآثار الحتمية لتغيّر المناخ، والوفاء بالتزامات تمويل العمل المناخيّ من الدول المتقدمة للبلدان النامية.

ثم تأتي الدورة الثامنة والعشرون في نفس المنطقة وتحديداً في دبي بالإمارات العربية المتحدة cop28، لتتوصل تلك الدول لاتفاق رائد يهدف للانتقال بعيداً عن الوقود الأحفوري الفحم، والنفط، والغاز، و»إعادة العالم إلى المسار الصحيح لإبقاء ظاهرة الاحتباس الحراري أقل من 1.5 درجة مئوية»، وهنا أثارت المسودة الأولية للنص غضب وصدمة العديد من الدول، إذ كانت تتوقع رؤية لغة حول «التخلص التدريجي» من حرق الوقود الأحفوري، قبل أن تسفر المحادثات الماراثونية، عن اتفاق مخفف «للانتقال بعيداً عن الوقود الأحفوري».

وعلى الرغم من اتفاق اللحظة الأخيرة، كان مبعث قلق بعض الدول أن الاتفاق لا يطلب من البلدان المتقدمة أن تتولى قيادة التحول بعيداً عن الوقود الأحفوري. إذ رأوا أنه ليس من العدل التوقع من جميع الدول أن تفعل ذلك في وقت واحد، في حين أن البلدان المتقدمة استفادت اقتصادياً بالفعل من استخدام النفط والغاز والفحم.

واتساقاً مع هذا القلق، وإضافة إلى أن مؤتمر الأطراف أثمر هذه الدورة، اتفاقاً تاريخياً نصّ على التحول عن الوقود الأحفوري، وإقرار صندوق الخسائر والأضرار لتعويض الدول الأكثر تضرراً من آثار تغير المناخ، بتعهدات بلغت، خلال أسبوعه الأول، نحو 84 مليار دولار، وتزامناً مع «الصحوة» الحاصلة في كم الاستثمارات التي يتم الإعلان عنها بشكل شبه يومي في موارده، يأتي انعقاد المؤتمر لدورتين متتاليتين في منطقة الشرق الأوسط الغنية بالموارد الاقتصادية المتناقضة مع أهداف «cop» والمتمثلة في النفط والغاز تحديداً، كحلقة من سيناريو يفرض الكثير من التساؤلات حول الجهات التي تدفع باتجاه فرض هذا النوع من الاقتصاد على العالم بشكل عام، والمنطقة على وجه التحديد، وما هي الموارد التي تريد بيعها والاستثمار فيها، وحجم المكاسب المنتظرة، وفي نفس الوقت يدق جرس الإنذار في المنطقة الغنية بموارد، حتماً، سيتم الاستغناء عنها، ليفرض عليها تحدياً اقتصادياً جديداً.

أما الشاهد على ذلك الواقع فهو أن السيناريو جاء من الغرب، وتحديداً، من الاتحاد الأوروبي الذي يشهد حالياً، ثورة في قطاع التكنولوچيا واستثماراته، التي تحتاج بالطبع إلى الأسواق التي يتم تأهيلها، الآن، وعبر السيناريو الذي يتم إعداده منذ سنوات لاستيعاب هذه التكنولوچيا، ومن ثم إحلال مواردها محل الموارد التي يسعى هذا الموّرد الجديد إلى «تصفير» انبعاثاتها، أو بالأحرى، «تصفير» وجودها والاستغناء عنها في المستقبل القريب.

وأما الحل، ليس بالطبع في الخضوع لهذا السيناريو حتى لا تتحول اقتصادات المنطقة إلى مجرد أسواق لاستهلاك هذه التكنولوچيا، وليس أيضاً في مقارعته أو معارضة أي من الحلول التي تدفع في اتجاه الاستدامة والحفاظ على المناخ والبيئة، وإنما في استغلال الفرصة للتحول نحو اقتصادات مستدامة بعيداً عن مخاطر الاعتماد على مورد اقتصادي وحيد كالنفط أو الغاز، شريطة أن تكون تلك الاقتصادات طرفاً فاعلاً من أطراف المؤتمر، ولاعباً رئيساً، لا مجرد سوق لاستهلاك المورد المستدام الآتي من هناك، فنبقى بصحبة هؤلاء النشطاء الذين تجمعوا خارج قاعات «دافوس» الفخمة نكافح معهم ضد الواقع.