أكد الخبير الدستوري، أستاذ القانون العام د. محمد المقاطع أن المدد الزمنية المحددة لردّ الاعتبار والمقترنة عادة بردّ الاعتبار قضائياً، لا توضع عبثاً ولا يتم تفصيلها بمقاسٍ سياسي أو اجتماعي أو انتقائي تحكّمي، وإنما تنطلق من المبادئ الدستورية لاتجاهات الدولة العقابية وفلسفتها الجزائية لتحقيق الردع.

وقال المقاطع، في دراسة قانونية خصّ بها «الجريدة» بعنوان «قانون ردّ الاعتبار بين المبادئ القانونية والرغبات السياسية»، إن إقرار مجلس الأمة لقانون ردّ الاعتبار بجلسة أمس الأول، قد جاء مخالفاً للدستور منحرفاً ومتجاوزاً لحدود سلطة التشريع مقتحماً ميادين ليس له ولوجها، فضلاً عن تجاوزه للسياسة الجزائية والعقابية وقواعدها العامة.

Ad

وأوضح أن مخالفة القانون للدستور تستوجب أن تتم معارضته، وحسناً فعلت الحكومة بموقفها منه، ومن ثم يجب رده ورفضه من الحكومة ومن سمو الأمير... وفيما يلي نص الدراسة:

«حينما تعلو لغة التدافع البرلماني، وعندما يستخدم القانون بمنطقيته مطية للتبرير السياسي، وحينما تقدم المبادئ الدستورية والمفاهيم المتعلقة بالعدالة وسياسة التجريم والعقاب واعتبارات حفظ النظام العام ومنع التجاوز الذي ينال من سلطات الدولة، قرباناً انتخابياً، وحينما ينشغل مجلس الأمة بلغة التخوين والرجم بالغيب، بمواجهة الرأي الآخر العلمي والمهني المخالف، تغدو المناقشة المنطقية الهادئة والعلمية الرصينة الموضوعية والمهنية ضرورة لمنع حالة أو لربما حالات خلط الأوراق من جهة، وحالة إثارة الضبابية بغيوم برلمانية لحجب الرؤيا الكاملة من كل جوانبها، واجباً وطنياً وفرضاً مهنياً.

وهو ما سأوضحه تبعاً هنا لمنع خلط الأوراق وتبديد تلك الغيوم، والله أسأل وضوح الحجة وحسن البيان والبنيان، وسلامة النوايا والفرقان.

أولاً: رد الاعتبار والدستور

الدستور الكويتي، مثل غيره من الدساتير، تضمن مبادئ وأحكاماً، ونظّم مختلف جوانب الدولة بنظامها السياسي وبسلطاتها وتكوينها ووظائفها، فحدد الدعامات وأرسى الأساسيات ووضع الضمانات. ومن ذلك مبادئ السياسات الجزائية والنظام العقابي، موازناً بين حماية مصلحة المجتمع والحقوق والحريات الفردية، فقرر الأمن الفردي ومبدأ شرعية الجريمة والعقوبة، وفرديتها وعدم رجعيتها وضمانات المحاكمة العادلة، والجهة المنوط بها الادعاء بها وتوقيعها ومن ثم تنفيذها ضماناً لسياسة الردع الجزائي لصون كيان المجتمع، مورداً مسوغات وإجراءات العفو عنها أو تخفيفها وأحكاماً متممة أخرى. وفي سياقها تناول العفو العام أو الشامل والذي يصدر بقانون لإسدال الستار على جرائم وقعت بفترة زمنية محددة أو ظروف استثنائية حرجة، أو أحدثت انعكاسات اجتماعية أو سياسية مؤلمة، فتتم معالجتها ترسيخاً للحريات الفردية دون إخلال بسياسة الردع الجنائي، صوناً للمجتمع من تداعيات المزاجية والفوضى والانتقائية.

ورد الاعتبار رغم أنه فكرة تسامحية وإصلاحية محمودة في النظام الجزائي، لكنه يبنى على اعتبارات زمنية وشخصية لطبيعة الجريمة وشخص المحكوم عليه، فلا يجوز التوسع في مجالات إعمالها ولا توحيد تطبيقها ولا تماثل استحقاقها بتجاهل الاعتبارات الشخصية لكل جريمة واعتبارات التشدد والرأفة أو التغليظ أو التخفيف التي هي حالة ينفرد القضاء بتقديرها في كل جريمة وعقوبة على انفراد لاعتباراتها الذاتية والشخصية، والتي لا تصلح أن تكون محلاً للتشريع، خلافاً للعفو العام تحديداً كما أسلفنا من جهة، كما لا يصح إقرانه بمعطيات ومبررات العفو الخاص لتوظيفه ضمن مبرراته لاختلاف النطاق والاعتبارات الردعية والمبررات الشخصية من جهة أخرى، حتى لا يفضي ذلك لعدم دستورية التشريع في بنائه وحدود اختصاصاته.

ثانياً: ردّ الاعتبار والمقاصد الجزائية للمدد

إن المدد الزمنية المحددة لرد الاعتبار والمقترنة عادة برد الاعتبار قضائياً، لا توضع عبثاً ولا يتم تفصيلها بمقاس سياسي أو اجتماعي أو انتقائي تحكمي، إنما تنطلق من المبادئ الدستورية لاتجاهات الدولة العقابية وفلسفتها الجزائية لتحقيق الردع وضمان التدرج باندماج الفرد مع المجتمع مرة أخرى من جهة، وتتم بتنوع وتباين في المدد بين الجنح والجنايات وتردف بإمكانية الحصول على ردّ الاعتبار القضائي حينما تكون ظروف وأحوال المحكوم عليه تستحق التقدير للاعتبارات الشخصية، لكنها بكل تأكيد لا ترتبط ولا تبنى على حالات العفو والتي هي استثناء، فلا يرد الاستثناء على الاستثناء، وإلا كان ذلك توسعاً وقياساً للاستثناء على أحوال لا تسري عليه، وهذا وجه المآخذ المخالفة للدستور والسياسية الجزائية والقواعد العامة التي تطبق في القانون المقارن من جهة أخرى.

ثالثاً: رد الاعتبار وقانون المسيء

يلاحظ أن النص الوارد بالقانون رقم 27 لسنة 2016 الخاص بما يسمى بعقوبة المسيء، أنه أورد حكماً منع به من يدان بهذه الجريمة، من إمكانية الترشح لعضوية مجلس الأمة، والمأخذ الأساسي على هذا القانون أنه جعل أثر العقوبة على عقوبته التبعية، هي الحرمان الأبدي من الترشيح، خلافاً للقواعد العامة، وخروجاً على مبادئ رد الاعتبار المقررة بقانون الجزاء، مما جعل تطبيقه استثناءات من تلك القواعد ويؤدي لحرمان الشخص من الترشح على نحو أبدي، وهو نتيجة ووضع غير منطقي ويخرج عن السياسة العقابية ومبادئ الدستور، وهو ما سبق وأن أكدناه، فكان عقوبة تبعية تحرم الشخص من حقوقه السياسية، فعرفت الكويت به للمرة الأولى تعطيل رد الاعتبار، وفي الوقت نفسه عقوبة الحرمان الأبدي من الترشح.

فكان لا بد من معالجة تشريعية لهذا الخلل في السياسة الجزائية الكويتية، بعد أن أغلقت منافذ الاستدراك القضائي، الذي التزم حرفية النص واعتبره نصاً خاصاً يمنع الترشح بصورة مطلقة.

وقد جاء قانون المفوضية العليا للانتخابات رقم 120 لسنة 2023 والذي نشر بالجريدة الرسمية في 27/ 8/ 2023، في المادة 17 منه التي تنص على أن «يحرم من الانتخاب كل من أدين بحكم بات في عقوبة جناية أو في جريمة مخلة بالشرف أو بالأمانة أو في جريمة المساس بالذات الإلهية أو الأنبياء أو بالذات الأميرية، ما لم يرد إليه اعتباره».

لتصحيح هذا الخلل وإعادة الأمر لسياقه الطبيعي في شأن أثر العقوبة التبعية حيث أخضعها لرد الاعتبار، مثل سائر الجرائم، متوافقاً مع القواعد العامة وبمددها وإجراءاتها وبسياقها المنطقي، ومن ثم تم تقييد أثر عقوبة قانون المسيء رقم 27 لسنة 2016 وانتهى الأمر، لكن الإرهاصات السياسية والتكسبات الانتخابية استمرت حاضرة وضاغطة، على النواب إرضاء لأشخاص محددين فتم تصميم وتقديم تعديلات قانون رد الاعتبار الذي أقره مجلس الأمة في هذه الأجواء ومن تلك المنطلقات، في جلسة 12/ 12/ 2023 لاعتبارات سياسية وانتخابية صرفة وليست قانونية ولا منطقية ولا مبررة تشريعياً، فكان ذلك بداية للانحراف التشريعي الذي اكتمل بموافقة مجلس الأمة (بأغلبية منحرفة) على هذا التعديل خلافاً للدستور وخروجاً على قواعده العامة وتجاوزاً لمبادئ السياسية العقابية والجزائية في الدولة، وهو العوار الدستوري الذي وصم به هذا القانون وصار ملازماً له، مما حمل الحكومة على الامتناع عن التصويت عليه تمهيداً لرفضه، وهو ما نطالب الحكومة به حماية للدستور واستقرار السياسة العقابية ومبادئها، ومنع الانحراف في العمل التشريعي.

رابعاً: رد الاعتبار وقانون المفوضية العليا

إن المعالجة التي تمت في قانون المفوضية العليا للانتخابات رقم 120 لسنة 2023، رغم ملاحظاتنا الدستورية عليه في شأن تكوين المفوضية وبعض اختصاصاتها، قد عالجت إشكالية رد الاعتبار التي نتجت عن إقرار قانون المسيء رقم 27 لسنة 2016، وما أوجده من حالة شاذة للحرمان الأبدي من الترشح إن تمت إدانته بتلك الجريمة، بسبب عدم إيراده لزوال ذلك المنع برد الاعتبار، فجاء قانون المفوضية العليا للانتخابات بمعالجة ذلك وإنهاء ذلك الخلل التشريعي بالخروج على القواعد الخاصة برد الاعتبار بالمادة 17 منه سابق الإشارة إليها أعلاه.

لكن المفارقة المحزنة والمنحرفة في آن واحد هو إصرار مجلس الأمة على إصدار تعديل على قانون الجزاء بشأن رد الاعتبار على نحو مخالف لأحكام الدستور وسياسته العقابية ومبادئه الجزائية، وخروجاً على السياسة العامة العقابية في الدولة، وبصورة تم معها التضحية بالعديد من المبادئ الدستورية الأخرى مثل العمومية والتجريد وبإنحراف تشريعي لكونه فصّل بمقاس أشخاص بذواتهم فاختل كيانه وشوه ميلاده، كما فيه تعدّ على فكرتي العفو الخاص والعام تحت غطاء رد الاعتبار واللذين لهما نطاقهما وطبيعتها المختلفة وفقاً للمادة 75 من الدستور، كما لا تتحقق له أدنى ضوابط واعتبارات رد الاعتبار في القواعد العامة للسياسة الجزائية، بل لقد شابه خلل دستوري جوهري نَصفُه بالتحكمي بالمدد التي أوردها لأغراض غير سديدة تهدر المبادئ العامة والدستور.

وإذا جاء التشريع ليتناول مسألة تم حسمها بتشريع سابق عليه فيغدو التشريع الجديد موضعاً للاستغراب، لأن محله وموضوعه يصبح منتهياً ولا حاجة له، إلا إذا كان له غرض سياسي وتكسب انتخابي واستجابة لضغوطات غير سديدة، مما يصمه بالانحراف التشريعي الجلل لغياب «الغاية التشريعية العامة»، وولوجه لغايات ومصالح خاصة ومنحرفة وهو ما نعتقده جزماً بهذا القانون.

خامساً: رد الاعتبار وقانون السابقة الجزائية الأولى

وقد يتوهم البعض، رداً على ما ذكرناه أعلاه بتبني بعض الأطروحات النيابية التي تبنتها لجنة الشؤون التشريعية بمجلس الأمة، لأجل التبرير السياسي وليس القانوني، وهي ذات الحجة التي تم ترديدها بجلسة 12/ 12/ 2023، وهي أن هناك من حكم عليه بعقوبات وخرج من السجن أو انقضت عقوبته، وهم بالآلاف، كما يدعون، ولا يستطيعون العودة للعمل، بالرغم أن بعضهم عقوبته هي فقط الغرامة أو عقوبة لجريمة بسيطة.

الدوافع السياسية

ولا شك أن هذه الحجة مردود على أصحابها، بما يؤكد الدوافع السياسية للتشريع وانحرافه الواضح ومخالفته للدستور، ذلك أن العودة للعمل والتوظف مرة أخرى أو من جديد، متاحة في ظل القانون الكويتي، وهي تلك الواردة بالقانون الخاص بعدم الاعتداد بالسابقة الجزائية الأولى بالقانون رقم 9 لسنة 1971، وهو من أقدم القوانين والتي راعت هذا الأمر وقررته ضمن السياسة الجزائية التي تسعى لإعادة تأهيل المحكوم عليه للاندماج بالمجتمع من جديد. وينبغي هنا أن نفرق بين المرتكب للجريمة لأول مرة وعدم تأثير العقوبة عليه من العمل لعدم الاعتماد بالسابقة الجزائية الأولى كما أشرنا، وبين العائد للجرم مرة أو مرتين، أو المقترف لجريمة جسيمة أو ماسة بأمن الدولة ومصالح المجتمع العليا، فلا يجوز في مثل هذه الأحوال أن نفتح له باب التوظف من جديد وهو يعود للجريمة، حتى لا يتبدد الردع الجزائي والذي هو أحد أهم غايات السياسة العقابية.

ومع ذلك فما زال القانون يفتح المجال لرد الاعتبار قضائياً لمن عقوبته ضئيلة أو بسيطة أو الغرامة، مع أخذ ظروف كل محكوم عليه بالاعتبار عند طلبه رد الاعتبار قضائياً، وهو من الموضوعات والمسائل التي ينفرد القضاء بتقديرها، وإقحام المشرع نفسه في هذا المجال من خلال تناول المدد والتحكم بها يخرج المشرع عن غاياته التشريعية، ويدخل في دائرة الانحراف التشريعي، والتعدي على اختصاصات وتقديرات القضاء بشأن العقوبات ووزنها واعتباراتها وظروف المحكوم عليه الشخصية على نحو ينتهك أحكام الدستور بصورة جلية.