في أغسطس2021، عادت أفغانستان إلى عناوين الأخبار، واقتربت قوات «طالبان» من كابول بخطوات سريعة، وبدأت الولايات المتحدة تنفّذ انسحابها العسكري الأخير، وفجأةً، شاهد العالم صور شعبٍ يائس وهو يشق طريقه إلى مطار كابول بحثاً عن فرصة للهرب، وبين ليلة وضحاها انهار كل ما حقّقه الأميركيون وحلفاؤهم على مر عشرين سنة من القتال وإنفاق الأموال وعمليات البناء في أفغانستان، فكانت هذه الخسائر صادمة بالنسبة إلى مليون أميركي شاركوا في تلك المساعي الفاشلة، وملايين الشباب الأفغان الذين تربّوا داخل ديموقراطية مدعومة من الغرب، رغم جميع شوائبها، وحاول مئات آلاف الأفغان مغادرة البلد بعدما أصبحت سبل عيشهم مُهددة وحياتهم بخطر، فطرحوا بذلك تحدياً جديداً على القوات الغربية المنسحبة.

لم تتوقع الولايات المتحدة أن تنفّذ هذا النوع من عمليات الإجلاء الواسعة، فعلى مر عشرة أيام، نقل الجيش الأميركي وحلفاؤه نحو 120 ألف شخص جواً، منهم 80 ألف أفغاني، من كابول، واصطحبوهم إلى قواعد عسكرية في الشرق الأوسط، ثم انتقل هؤلاء من هناك إلى الولايات المتحدة أو أماكن أخرى، فكانت هذه العملية كلها فوضوية، واضطر كل من يفتقر إلى جواز سفر أميركي أو تأشيرة للاتكال على معارفه الشخصية للتوسط لدى موظفين أميركيين ميدانياً، كذلك تخبّط المحاربون، والدبلوماسيون السابقون، وعمّال الإغاثة، والصحافيون الأميركيون، لإيجاد ممر للأفغان الضعفاء. تعرّض عدد كبير من الأفغان الراغبين في المغادرة للرفض. وفي خضم هذه الأزمة، شعر جزء كبير من الأميركيين الناشطين في أفغانستان والراغبين في الرحيل بالاستياء لأن عملية الإجلاء كانت عشوائية وتركت وراءها عدداً كبيراً من الأفغان المعرّضين للخطر. إليوت أكيرمان هو واحد من هؤلاء الأميركيين، فقد كان هذا الرجل جندياً في سلاح البحرية الأميركية في أفغانستان، ثم أصبح مستشاراً لفِرَق مكافحة الإرهاب الأفغانية في إطار برنامج تقوده وكالة الاستخبارات المركزية، وفي الأسابيع الأخيرة التي سبقت الانسحاب الأميركي، انضم أكيرمان إلى سلسلة من الجهود المرتجلة لتسهيل إجلاء جماعات صغيرة من الأفغان، فاستعمل معارفه في الجيش الأميركي ووكالات أخرى على صلة بعمليات الإجلاء لمساعدة الأفغان على دخول مطار كابول وركوب الطائرات. في كتاب The Fifth Act: America›s End in Afghanistan (القانون الخامس: نهاية أميركا في أفغانستان)، يَصِف أكيرمان تلك الجهود، فيدمج تفاصيل الانسحاب مع خبرته القتالية ويطرح وجهة نظره حول إخفاقات الحرب.

طوال عقود، كتب محاربون أميركيون قدامى كتباً ترتكز على تجاربهم الشخصية في الحرب للتصدي لأفكار الخبراء الاستراتيجيين والمخططين العسكريين في واشنطن، لكن الوضع في كتاب أكيرمان يختلف، فهو يستكشف الفرص الضائعة في الحرب الأميركية وتفاصيل الانسحاب الفاشل، لكنه يعكس في نهاية المطاف العقلية الشائبة التي تحرّك مهندسي الحرب، فعلى غرار واشنطن، يُركّز أكيرمان على القوات العسكرية والسياسات الأميركية من خلال تحليل مسار الحرب من وجهة نظر ضيّقة ويُهمّش في المقابل العوامل السياسية في أفغانستان ودوافع الأفغان وتجاربهم، لكن يكشف الكتاب عن غير قصد نقاط الضعف التي عاقت استراتيجية واشنطن.
Ad


ينتقد أكيرمان غياب «البنية الاجتماعية اللازمة لمتابعة الحرب»، وهو يعني بها فرض ضرائب على الحرب أو طرح مسودة قانون خاصة بها لنيل دعم شريحة أوسع من الرأي العام الأميركي، لكنه لا يوضح إلى أي حد ستكون هذه الخطوات فاعلة ويتجاهل استحالة تنفيذها من الناحية السياسية، وفي الوقت نفسه، كان يُفترض أن تبقي الولايات المتحدة قواتها العسكرية في أفغانستان بدل سحبها، برأي أكيرمان، على اعتبار أنها لم تكن تخوض الحرب هناك كما كانت تفعل في سورية وأجزاء من إفريقيا، لكن من السذاجة أن يصدّق أحد أن البلد لم يكن يخوض الحرب، حتى لو أبقى عدداً صغيراً نسبياً من القوات الأميركية هناك إلى أجل غير مُسمى: في عام 2021 وحده، سقط أكثر من 35 ألف قتيل على صلة بالحرب في أفغانستان، كذلك لا تتماشى الفكرة التي تدعو المسؤولين الأميركيين إلى الاستخفاف بتداعيات الحرب مع دعوة أكيرمان إلى تشجيع الأميركيين العاديين على المشاركة شخصياً في هذه الجهود.

يستحق أكيرمان الإشادة على دوره في مساعدة الأفغان على الهرب من بلدهم، حين كانت «طالبان» تتقدم نحو كابول في أغسطس 2021، وهو محق حين يعتبر عمليات الإجلاء فوضوية، لكنّ وجهة النظر التي يطرحها وهو موجود على بُعد آلاف الأميال قد تكون محدودة، فهو يعرض رسائل نصية وإلكترونية ومكالمات هاتفية عن إجلاء الأفغان، تزامناً مع كتابة عبارات قصيرة عن العطلة العائلية التي كان يمضيها في الفترة نفسها في إيطاليا، لكن لا يبدو هذا الدمج مناسباً بأي شكل.

تبقى التفاصيل التي يعرضها أكيرمان عن الأفغان الذين شارك في إجلائهم محدودة، فهو يذكر أنه لم يكن يعرف معظمهم، فكانت جهوده لإغاثة غرباء يحتاجون إلى المساعدة جديرة بالثناء، لكن غياب أي رابط شخصي بين الطرفَين يعني أن القراء قد يضطرون للاطلاع على مراجع أخرى إذا كانوا يبحثون عن مصدر موثوق به عن الأيام الأخيرة للحرب الأميركية في أفغانستان، بما في ذلك تجربة الشعب الأفغاني الذي انقلبت حياته رأساً على عقب.

رغم عنوان الكتاب الفرعي، لا يُركّز الكاتب على نهاية الحرب الأميركية في أفغانستان، فلم يكن أكيرمان موجوداً هناك خلال عملية الانسحاب، وهو لا يذكر أنه حلّل تلك النهاية عن قرب، لكنه يعتبر توقيت الانسحاب عشوائياً ويضع طريقة التعامل معه في خانة «الخيانة»، ومن وجهة نظره، كان يُفترض أن تقوم الولايات المتحدة بإجلاء المزيد من الأفغان في أسرع وقت، لكن كان إقدام الأميركيين على إجلاء مئات آلاف الأفغان قبل موعد الانسحاب بكثير لينشر الهلع على نطاق أوسع ويسرّع انهيار الحكومة الأفغانية، كذلك، كان مستبعداً أن تستمر أي عملية إجلاء مدروسة من دون إحداث القدر نفسه من الفوضى تزامناً مع انهيار الحكومة واقتراب «طالبان» من كابول.

انطلاقاً من فرضيات أكيرمان، كان يُفترض أن تجازف الولايات المتحدة في مواجهة هذه السلسلة المتوقعة من الأحداث، لكن على غرار عدد كبير من منتقدي طريقة الانسحاب، لا يعترف أكيرمان بالمعضلة التي يواجهها صانعو السياسة الأميركية، ومن الواضح أن جوانب عدة من عملية الإجلاء الطارئة كانت ستستفيد من تخطيط مسبق، فقد كانت الحكومة الأميركية تستطيع مثلاً أن تُصدِر المزيد من تأشيرات المهاجرين الخاصة، فيتمكن الأفغان الذين عملوا لصالح الولايات المتحدة من تقديم طلبٍ لنيلها، لكن تبقى الفكرة القائلة إن تنفيذ عملية إجلاء واسعة كان ممكناً قبل 31 أغسطس من دون إحداث أي اضطرابات مجرّد وهم، فقد نظّمت الولايات المتحدة وجماعات خاصة بعد الانسحاب الإجراءات اللازمة لإخراج آلاف الأفغان الآخرين من البلد، منهم أشخاص معرّضون للخطر أو كانوا قد عملوا مع القوات الأميركية. خلال السنوات الأخيرة للحرب، اتّضح للجميع أن واشنطن كانت مضطرة للاختيار بين الخسارة السريعة والخسارة البطيئة في أفغانستان، وحين قرر الرئيس الأميركي جو بايدن الانسحاب بالكامل، في أبريل 2021، اختار بذلك الخسارة السريعة، مع أن سرعة الخسائر المرتقبة لم تكن واضحة في تلك المرحلة، ويزعم أكيرمان أن «الحكومة الأفغانية حاربت طالبان إلى أن وصلت إلى طريق مسدود حين أعلن الرئيس بايدن انسحابه من البلد»، لكنها معلومة غير صحيحة، إذ بدأت «طالبان» تُوسّع مكاسبها منذ سنوات، وتحديداً منذ أن بدأت الولايات المتحدة تسحب قواتها العسكرية بعد عام 2014،و بعد تلك المرحلة اعتبر بعض المسؤولين الأميركيين الوضع القائم «مأزقاً مُسْتنزِفاً للقوة»، وهي عبارة تحمل تناقضات كثيرة.

في غضون ذلك، اهتزّت شرعية الرئيس أشرف غني محلياً وتراجعت سيطرته على النظام السياسي، فتابع اتكاله على المساعدات الخارجية والدعم العسكري.

حين قرر بايدن الانسحاب، كان يمكن أن تتوصل الحرب إلى نتيجتَين محتملتَين، فوفق السيناريو الأول، كانت حركة «طالبان» ستفرض نفوذها وتطلق معركة مطوّلة للسيطرة على المدن، وكان يمكن أن تتحول هذه المعركة إلى حرب أهلية متعددة الفئات، أما السيناريو الثاني، وهو الاحتمال الذي تحقّق على أرض الواقع، فهو يفترض أن يطلق الانسحاب أزمة ثقة بين الأفغان، مما يؤدي إلى انهيار الحكومة وقوات الأمن سريعاً، وكان من الصعب على الولايات المتحدة أن تتوقع حصول السيناريو الثاني لأنه يتوقف على تقييم دقيق لمواقف معظم الأفغان من متابعة القتال، وهو تقييم عَجِز الأميركيون عن القيام به.

لطالما كان احتمال أن تنتشر الفوضى مع رحيل الأميركيين قائماً، بغض النظر عن شكل الانسحاب، فقد يكون جزء من الانتقادات المتعلقة بطريقة تعامل إدارة بايدن مع الانسحاب من أفغانستان محقاً، منها تعليقات ذكرها أكيرمان شخصياً، لكن من خلال التركيز المفرط على ما حصل خلال 15 يوماً من عام 2021، يوحي كتابه بأن الفشل الأساسي يتعلق بطريقة انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، بدل أن يُنسَب ذلك الفشل إلى طريقة دخول الأميركيين إلى البلد وما فعلوه أثناء وجودهم هناك.

وتثبت الأيام الأخيرة قبل الانسحاب مدى هشاشة الحكومة الأفغانية والمؤسسات الأمنية المحلية التي حاولت الولايات المتحدة بناءها على مر أكثر من عقدَين، وإذا كانت القصة التي يتداولها الأميركيون عن الحرب الأفغانية لا تُركّز على تلك الوقائع بل على طريقة تنظيم الانسحاب الأميركي وتوقيته، فلا مفر من أن يغفلوا عن أهم الدروس المستخلصة من الحرب: ثمة حدود لما تستطيع الأموال وقوة الإرادة الأميركية تحقيقه، ولتجنب الانسحاب من حربٍ لا فائز فيها، تقضي أفضل طريقة بعدم التورط في حربٍ مماثلة أصلاً.

لوريل ميلر