أثار إعلان وزارة المواصلات مطلع الأسبوع الجاري موافقة مجلس الوزراء على مشروع القانون الخاص بتأسيس شركة «بريد الكويت» كشركة مساهمة كويتية عامة مملوكة للدولة بالكامل برأسمال 50 مليون دينار، وإحالته إلى مجلس الأمة، أسئلة حول الجدوى الاقتصادية من تحويل قطاع البريد الحكومي في «المواصلات» إلى شركة حكومية غالباً - تحت مظلة - الهيئة العامة للاستثمار.

ولعل تأسيس شركة حكومية خالصة بما ذكره البيان من إدارتها على «أسس تجارية واستثمارية، ويشرف عليها الوزير المختص» يشبه إلى حد بعيد الخطاب الذي رافق تحويل العديد من القطاعات الوزارية كمشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وحماية المنافسة، وتشجيع الاستثمار المباشر، وهيئة الطرق، وغيرها إلى هيئات عامة بغرض تسهيل العمل والإنجاز وتجاوز البيروقراطية الحكومية، وتبيّن لاحقاً بعد ضياع العديد من السنوات والفرص عدم جدوى هذه الخطوة، التي خلقت حكومة من الشحم الزائد في الهيئات موازية للمؤسسات الحكومية التقليدية المعروفة بالوزارات... مما يفتح مجالاً للشكوك إن كانت خطوة تأسيس الشركات الحكومية بنسبة 100 بالمئة هي التفاف على التوجه الحكومي بوقف تأسيس الهيئات والسعي - بخطوات بطيئة - لدمج المتشابهة منها وإعادة ضم البعض الآخر للوزارات المختصة.

Ad

تجاهل النموذج

ومع التأكيد أن أحد أغراض تأسيس أي شركة هو وجود شركاء متعددي الخيارات والتوجهات بما يصب في مصلحة نشاط الشركة وبالتالي مساهميها، فإن تجاهل النموذج الأكثر فاعلية المتمثل في تنويع رأسمال الشركة بنظام الشرائح الذي يجمع الدولة مع المشغل الفني «غالباً بخبرات أجنبية» مع طرح النسبة الأساسية للاكتتاب العامة للمواطنين فيه جانب مهم من تضييع الفرص الاقتصادية والمالية شبه المضمونة.

فتأسيس شركة مساهمة عامة تأخذ في الاعتبار وجود حصة حكومية مع مشغّل فني إلى جانب حصص للمواطنين يضمن أن تتحقق فيها فكرة الإدارة على «أسس تجارية واستثمارية» أكثر من الملكية الحكومية العامة، التي تخضع للضغوط السياسية المختلفة، ويمكن أن يعطي عوائد أفضل للدولة مع وجود المشغل الفني المحترف، الذي يشتري حصة في مزاد فيدفع للدولة قيمة أعلى من سعر التأسيس، كما حدث في شركات كالبورصة أو «stc» مع تقديم العرض الفني للتشغيل، فضلاً عن أن تعدد الشرائح يقدم فرصاً استثمارية مربحة للمواطنين، يمكن أن تكون من ضمن الخطاب الذي يواجه المقترحات الشعبوية كالزيادات المالية أو شراء القروض أو إسقاطها، التي تؤدي إلى التزامات جارية متنامية على المالية العامة سنة تلو الأخرى.

تضييع فرصة

بل إن فكرة تأسيس شركة حكومية خالصة لتولي قطاع بحجم البريد هو تضييع فرصة اقتصادية في خلق خبرة ومهنية وتجربة للدولة في التعامل مع نماذج خصخصة في القطاعات الصغيرة ومحدودة الضرر في الاقتصاد، كالبريد وشركة المشروعات السياحية والرياضة، وخلق نماذج للرقابة الحكومية كهيئات تنظيمية تحمي المستهلكين والعملاء وتحقق معايير المنافسة في السوق، فضلاً عن سعيها لطرح الفرص الاستثمارية وتحفيز البيئة الاقتصادية، وهذه مسائل تُبنى من خلال التجارب وتقويم الانحرافات، التي من المؤكد حدوثها عند أيّ عملية خصخصة، حتى وإن كانت في قطاع محدود كالبريد، قبل أن تحدث بشكل أكثر تعقيداً عندما تتجه الحكومة كما ورد في برامجها لخصخصة قطاعات أكبر كالتعليم والصحة والنفط، وهذه قطاعات تكلفة الانحراف أو الفشل فيها عالية على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، وربما حتى السياسي.

جهاز التخصيص

وفي الحقيقة، فإنّ التوجه لتأسيس شركة البريد الحكومية، التي تلت إعلان تأسيس الشركة الكويتية للتخزين، وهي حكومية أيضاً يفتح الباب للتساؤل عن دور الجهة المعنية بالخصخصة، أي الجهاز الفني لبرامج التخصيص، الذي أسس عام 2015 لم ينجز أي مشروع لخصخصة أي كيان حكومي مهما كان حجمه محدوداً جداً، ومن المتوقع حسب التوجهات الحكومية دمجه مع هيئة تشجيع الاستثمار «الأجنبي»، مع أن اختصاصات هذا الجهاز الفني من إعداد الدليل الإرشادي بالمشروعات العامة القابلة للتخصيص إلى رفع توصية بالشركات والتحالفات الفائزة بأي مشروع، مروراً بعمل الدراسات ونماذج العقود وإعلان نتائج التقييم ورفع توصية بالترسية، وغيرها يفترض أن تجعل لهذا الجهاز دوراً جوهرياً في صياغة أي سياسة خصخصة مهما كان وزنها أو حجمها في حين واقع الحال أن كل عمليات التخصيص التي شهدتها البلاد منذ تأسيسه في قطاعات أسواق المال والكهرباء ومعالجة المياه والضمان الصحي لم يكن لجهاز التخصيص أي دور في ممارسة اختصاصاته!

«المطاحن» و«التموين»

وربما يتساءل البعض: لماذا نحكم بفشل الشركات الحكومية في ظل وجود شركات ناجحة مملوكة للدولة بشكل كامل كشركة المطاحن الكويتية والشركة الكويتية للتموين؟

لا شك في أن جانباً مهماً من نجاح شركتي المطاحن والتموين مرتبط بجانب كبير في الدعم الحكومي المالي الموجه للشركتين، لكونها من الشركات المؤسسة بهدف المحافظة على الأمن الغذائي والاستهلاكي بشكل عام بما يصل قيمته سنوياً - للشركتين - نحو 250 مليون دينار، فضلاً عن المزايا الحكومية الخاصة بتسهيل الإجراءات وتخصيص منافذ البيع المجانية أو بالأسعار الرمزية، بما يجعلهما خارج إطار التقييم إذا طبّقنا المعيار الذي أسست عليه شركة البريد، وهو كما ورد رسمياً في بيان «المواصلات» على أسس تجارية واستثمارية، فضلا عن أن الغرض من تأسيس أي شركة، إذا تجاوزنا مسائل العائد المالي أو حتى الفرص للمستثمرين والمواطنين، هو خلق فرص اقتصادية مثل الفرص الوظيفية للعمالة الوطنية في القطاع الخاص وهذا أمر لن تحققه الشركات الحكومية.

مشكلة تأسيس شركة البريد الحكومية أنها جهد بلا عائد، فلم نكن في حاجة إلى دراسات وإجراءات وإعداد مشروع قانون لنحوّل قطاعاً في وزارة إلى شركة حكومية دون أن يحقق الاقتصاد أي عوائد على صعيد الخبرة الأجنبية أو استثمار المواطنين، أو حتى خلق الفرص الوظيفية.