الموت الرحيم في غزة

تجري تشريعات بعض الدول وبعض الولايات في أميركا، على الإذن للأطباء بنزع الأسلاك ‏التي تُبقي المريض حياً يتنفس، متى ثبت لهم أنه مات إكلينيكيا، فالقتل هنا بنزع هذه الأسلاك يعدُّ ‏فعلا مباحا لا عقاب عليه في هذه التشريعات، ويُطلق عليه القتل أو الموت الرحيم، وهو يريح ‏الكثير من المرضى من الآلام المبرحة، خلال ساعات النهار والليل، ولهذا فإن آلاف شهداء ‏غزة، الذين لاقوا حتفهم في العدوان الوحشي البربري عليها، وآلاف الجرحى وآلاف المفقودين ‏من أهالي غزة، من مدنيين، أطفالا وعجائز ومسنين ونساء وأطباء في المستشفيات ومسعفين ‏ومرضى وصحافيين، كانوا قبل استشهادهم أو إصابتهم ‏ أو فقدهم، وغيرهم من أهالي غزة، ‏البالغ عددهم المليونين، ينتظرون دورهم في الاستشهاد ومن قبلهم أجدادهم وآباؤهم ‏وأمهاتهم، على مدى سبعة عقود من الزمن، قبل طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر.

Ad

طوفان الأقصى ملاك الرحمة

فطوفان الأقصى هو ملاك الرحمة لغزة، ولكل من استشهد من أبناء وبنات وأطفال غزة، ذلك ‏أنهم جميعا كانوا فرحين وسعداء بهذا الطوفان الذي أعاد لهم كرامتهم وعزتهم وكبرياءهم، وقد ‏أصبحوا يتنفسون الكرامة بعد الهوان، والذلة بعد المسكنة، يتنفسون الأمل لهم ولأولادهم ‏وأهاليهم، إذا ما استشهدوا، بعد طوفان من اليأس والإحباط، دمر عليهم حياتهم وأحالها إلى حياة ‏من البؤس والشقاء والمعاناة، وقد كانوا يتنفسون في هذه الحياة رائحة الموت، ويرون شبحه يطاردهم ويطارد أطفالهم وشيوخهم ونساءهم في كل ساعة، بل في كل لحظة من هذه ‏الحياة.

وطوفان الأقصى ملاك الرحمة لكل من ينتظر دوره في الشهادة على أرض غزة، ولكل من ‏سيبقى على قيد الحياة منهم بعد انتهاء هذه الحرب، رافضا الاستسلام أو التهجير، ملتفا حول ‏أبطال طوفان غزة، يحييهم ويشدّ من أزرهم، ويقوي عزائمهم، بصموده ورفضه منشورات ‏الخيانة التي تنزلها على سكان غزة الطائرات الإسرائيلية، للوشاية بأبنائهم وإخوانهم وآبائهم ‏وأصدقائهم وجيرانهم، الذين يخوضون معركتهم الباسلة، من تحت الأرض، وحدة وطنية، لم ‏يشهد التاريخ لها مثيلا، في محنة وملحمة صمود شعب لسبعة عقود من الزمن، وأمام عدو ‏متوحش، نزع من قلوب جنوده ومستوطنيه وأفئدتهم أي وازع من ضمير أو رحمة.

الموت الرحيم لشعب غزة

‏ فقد جاء هذا الطوفان، بمنزلة الموت الرحيم لشعب غزة مما كانوا يلاقونه خلال هذه العقود ‏السبعة، وقد وصف حالهم المفكر والكاتب الصحافي الإسرائيلي ديفيد جدعون في اليوم التالي ‏لطوفان الأقصى، على صفحات جريدة هآرتس الإسرائيلية في مقال كتب فيه يقول: «منذ ‏‏1948 وإسرائيل تعاقب غزة.. إنه يكفي مهاجمة غزة بين المرة والأخرى بالطائرات الانتحارية ‏بدون طيار.. تطلق النار على الأبرياء.. نقتلع عيونهم.. ونهشّم الوجوه.. نرحلهم، نصادر ‏أراضيهم وننهبهم.. ونخطفهم من أسرهم، ونقوم بتطهير عرقي، نواصل الحصار غير المعقول ‏على غزة، وكل شيء سيكون على ما يرام.. نواصل احتجاز آلاف الأسرى الفلسطينيين، ومن ‏بينهم أسرى بدون محاكمة، وأغلبهم سجناء سياسيون، ولا نوافق على مناقشة إطلاق سراحهم ‏حتى بعد عقود في السجن، ونقول لهم إنه فقط بالقوة يمكن لأسراهم أن يحصلوا على الحرية، ‏نواصل دون تشويش، نعتقل، نقتل.. نسيء معاملة.. نسلب.. نحمي مستوطِني المذابح.. وعلينا ‏الآن أن نبكي بمرارة على الضحايا الإسرائيليين، ولكن علينا أيضاً أن نبكي على غزة التي معظم ‏سكانها لاجئون خلفتهم أيدي إسرائيل، غزة التي لم تعرف يوماً واحداً من الحرية».‏

الشعب الفلسطيني في ميزان إسرائيلي

في إحدى افتتاحيات «هآرتس» الجريدة الإسرائيلية بعنوان (الفلسطينيون أفضل شعوب الأرض في ‏الدفاع عن أوطانهم) كتبت الصحيفة تصف الفلسطينيين في عددها الصادر في 20 أكتوبر تقول ‏بأنهم شعب من أفضل شعوب العالم الذين هبوا للدفاع عن حقوقهم بعد خمسة وسبعين عاما ‏وكأنهم رجل واحد.

يقول كاتب الافتتاحية: «إن المُدن العربية في إسرائيل فاجأت الجميع بهذه الثّورة العارمة ضدنا ‏بعد أن كنا نظُن أنهم فقدوا بوصلتهم الفلسطينية... هذا نذير شُؤم على الدولة». ويؤكد السياسيون في ‏هذا البلد «أن حساباتهم كانت كُلها مغلوطة... وسياساتهم كانت تحتاج لأُفُق أبعد مِمّا فكروا فيه.. ‏وان الفلسطينيين هم فعلاً أصحاب الأرض، ومَن غير أصحاب الأرض يدافع عنها بنفسه وماله ‏وأولاده بهذه الشراسة وهذا الكبرياء والتحدي؟... فالفلسطيني سيُبعث مِن جديد ومِن جديد ومِن ‏جديد وسيأتي مرّة راكباً فرسه متجهاً نحو تل أبيب».

طوفان الأقصى في الميزان الإسرائيلي

ويقول كاتب الافتتاحية في هذا المقال: «جيوش دول بكامل عتادها لم تجرُؤ على ما فعلته ‏المقاومة الفلسطينية في أيام معدودات... فقد سقط القِناع عن الجندي الإسرائيلي الذي لا يُقهر ‏وأصبح يُقتل ويُخطف».

الشعب الإسرائيلي في ميزانه

ويقول كاتب الافتتاحية في هذا المقال: «وأنا كيهودي أتحدى أن تأتي دولة إسرائيل كلها بهذا ‏الانتماء وهذا التّمسُّك والتجذُّر بالأرض... ولو أن شعبنا مستمسِّك بأرض فلسطين لما رأينا ما ‏رأيناه مِن هجرة اليهود بهذه الأعداد الهائلة في المطارات يسارعون للهجرة منذ أوّل بدء ‏الحرب».

الحلم الإسرائيلي الزائف

ويضيف الكاتب الإسرائيلي في وصف حال إسرائيل بعد طوفان الأقصى: «وطالما أن تل أبيب ‏ذاقت صواريخ المقاومة، فمِن الأفضل أن نتخلّى عن حلمنا الزائف بإسرائيل الكبرى ويجب أن ‏تكون للفلسطينيين دولة جارة تُسالمنا ونُسالمها، وهذا فقط يُطيل عمر بقائنا على هذه الأرض بضع ‏سنين... وأعتقد أنه ولو بعد ألف عام... هذا إن استطعنا أن نستمر لعشرة أعوام قادمة كدولة ‏يهودية فلابُد أن يأتي يوم ندفع فيه كل الفاتورة».

رسالة إلى الحمقى فينا

هذا المقال هو رسالة إلى الحمقى من الإعلاميين العرب، فحاشا لله أن يكون الجميع حمقى، بل ‏الذين ينفثون سموم إعلامهم الملوث بالعمالة والخيانة، والذين علمهم كبيرهم في قناة «القاهرة ‏والناس» المصرية الحمق، عندما وصف أبطال طوفان الأقصى بالحماقة ولا أجد ما أرد به على ‏حمقه إلا بيتين من الشعر للشاعر أبوالقاسم الشابي، يقول فيها:‏

إِذا الشَّعْبُ يوماً أرادَ الحياةَ

فلا بُدَّ أنْ يَسْتَجيبَ القدرْ

ولا بُدَّ للَّيْلِ أنْ ينجلي

ولا بُدَّ للقيدِ أن يَنْكَسِرْ

وقد أوشك ليل شعب فلسطين البهيم أن ينجلي على أرضه التي اغتصبت منه، بسواعد أبنائه ‏وبدمائهم التي خضبت أرض غزة، لا بالتحاليل السياسية.