إن أية قراءة سريعة للمعركة العسكرية في غزة لابد أن نقر من خلالها أن العملية نجحت بشكل منقطع النظير، إنْ من خلال القصف الصاروخي المستمر على كل الأراضي الواقعة تحت سيطرة الصهاينة أو من خلال التوغل البري في العمق الصهيوني مع توافر خطة عودة محكمة، أو من خلال هذه القدرة الكبيرة على الإيقاع بالأسرى من جيش الصهاينة، أو من خلال استمرار القدرة على المقارعة العسكرية دون تراجع ملحوظ.

وهذا النجاح الميداني يجعل الاجتياح البري الصهيوني مغامرة غير معروفة النتائج، ويكاد مجرد توقع ثمنها يجعل الحكومة الصهيونية تتردد كثيراً رغم الضغط المعنوي والنفسي الكبيرين عليها من أجل بدء الاجتياح لاستعادة جزء بسيط من ثقة مواطنيها كما كان قبل المعركة. ومن هنا جاء تصريح محمود عباس مخيباً للآمال ومتخندقاً في الكفة الصهيونية بقصد أو بدون قصد، فسواء كان لنا نقد لحماس أو لا فإن مثل هذا النقد يبقى مؤجلاً إلى ما بعد نهاية المعركة، لسببين أحدهما أن مثل هذا النقد في هذا الوقت يلحق ضرراً معنوياً ونفسياً مجهول الحجم على المقاتلين والمدنيين الفلسطينيين، والثاني أن بقاء النتائج الميدانية النهائية مجهولة يجعل النقد خاطئا وغير واقعي مهما كانت النتائج سيئة لأن النقد يرتبط بالنتائج دائماً ولا يسبق وقوعها.

Ad

وبدل توجيه نقد بصورة قاسية مثل القول إن حماس لا تمثل الشعب الفلسطيني، كان الأحرى بعباس وقيادات فتح توظيف هذا النجاح العسكري الكبير والزخم الشعبي الفدائي العظيم في تحقيق نجاح سياسي كبير أيضاً من خلال توظيف الأوراق المتاحة في هذا الظرف، لكننا لم نشاهد مثل هذا التوظيف، مما قد يعكس الشيخوخة السياسية التي تعانيها السلطة في الضفة والمحنة التي وجدت السلطة نفسها فيها، فلا هي قادرة على إقناع المواطن الفلسطيني بجدوى خيارها ولا هي قادرة على إعلان رفضها للجريمة التي ترتكب بحق الشعب الفلسطيني، فتصريح عباس نوع من رفض التغيير وتمسك بما كان سائداً قبل هذه المعركة وخوف من الواقع المستقبلي الذي من المتوقع أن تولده المعركة الحالية، وهي حالة تدل على شيخوخة وإصرار على المصالح السائدة.

ولأن فتح أو بقية فصائل المقاومة الفلسطينية القديمة والمستحدثة قامت فكرياً واستراتيجياً على ثقافة تحرير الأرض الفلسطينية، فإن أياً من هذه الفصائل حين تلقي أسلحتها لا مكان لها في السلام، فمن يقود أدوار المقاومة لا يجيد قيادة أدوار ما بعد المقاومة.

ومن هنا أعتقد أن فتح انتهت كتنظيم أو قياديين منذ توقيع اتفاقات أوسلو، وما الكلمة الشهيرة للراحل ياسر عرفات بأنه (سلام الشجعان) إلا دليل على أن العقول المحاربة ميدانياً لا يمكنها أن تقود سياسة، ومصطلح شجعان يخص الحرب لا السلام.

إن الفرصة الوحيدة أمام القيادة الكلاسيكية لفتح أن تعتزل وتسلم المهام للقيادات الجديدة ثم الانضمام إلى حماس باعتبار ان قيادات فتح تعمل لمرحلة غير موجودة حالياً، وأن المرحلة الحالية مرحلة حماس بشكل كامل، وأن تجهيز قيادات فتح الجديدة لتكون قادرة على قيادة المستقبل المدني مع دعمها الكامل لحماس حالياً والرضا بأدوار مساندة للحصول على شعبية معقولة تؤهلها للبروز مستقبلاً هو الخيار المتاح أمام فتح حالياً، فسواء أعجبنا هذا السيناريو أو لم يعجبنا، فإنه استسلام لواقع حالي ومستقبلي لا يتيح أية فرصة أخرى، وكل رفض لما هو قائم حالياً كما فعل محمود عباس هو خسارة للرافض فقط وتعرية شعبية له.