إلى الإنسانة التي تفرَّدت بصدقها وأصالتها، وأبت إلا أن تكون حقيقية.

إلى التي عشقت الحياة، وشغفت بكل أدوارها التي اختارتها لنفسها، فعاشت كما تستحق الحياة أن تُعاش كاملة ممتلئة بها.

Ad

إلى المناضلة التي انحازت بإيمان ثابت للحق، والعدل، والإنسانية، فناضلت ببسالة، من أجل مصداقية الخبر وحرية الكلمة.

إلى الروح الثرية التي لم تقبل بسطحية المشاعر، واختارت أصالة البهجة، ففضَّلت الامتلاء باللحظة المعيشة على لحظات السعادة الوهمية.

إلى التي واجهت تحدياتها وأوجاعها وأحزانها، وكانت حاضرة لها، عاشتها كما ينبغي بشجاعة وقبول دون سخط أو غضب أو تباهٍ أو ابتزاز عاطفي.

كانت تعلم أن الألم ضرورة النمو وضريبة الحكمة ووقود الشجاعة.

إلى صديقتي المذهلة جيزال، الوجع بفقدك كبير، وأكبر بكثير من أن تحمله الكلمات.

منذ أن غادرت يا صديقتي وأنا أكتب عنك كل يوم، ولا أدري إن كنت أنا مَنْ تكتب، أم أن الكلمات وجدت طريقها وحدها، لأنها مقترنة أصلاً باسمك.

هناك الكثير في القلب يجب أن يُذكر، وإن تواضعت الكلمات أمام وهج حقيقتك.

عندما تواصلنا في منتصف الشهر الماضي، لنتفق على موعد للقائنا المقبل في بيروت، اتفقنا على أن نلتقي في أكتوبر، لكن موعدنا ظل مُعلقاً.

أراد الله أن يريحك ويستضيفك في مكان أجمل، بعيداً عن ذاك الوحش الذي تطفل على حياتك في السنتين الماضيتين. ذاك الوحش الذي أبرمت معه معاهدة فريدة نادرة لا يجرؤ أحد عليها، معاهدة ذكية، هي مزيج من الحرب والتعايش السلمي تنص على أن «لك جسدي، ولي حرية العيش بامتلاء»، وهكذا كان بمباركة الله وحمايته، فعشت كما اخترت أن تعيشي بامتلاء وحُب حتى اللحظات الأخيرة.

فجر السادس عشر من تشرين الأول (أكتوبر) كان يوماً حزيناً لبيروت والوطن العربي.

أما أنا فكنت أُمنِّي النفس بلقاء قريب مليء، فيه خطط ومشاريع إعلامية للشباب العربي، فيه نقاش ممتع عن رواية «إخوتنا الغرباء» لأمين معلوف. كنت سأحضر لك معي كتاب «نظام التفاهة» الذي حدثتك عنه.

كنت سأمتع عيني برؤيتك وأنت ترقصين ببهجة الطفولة مع الأحفاد، ونشارككم أنا وحفيدتي روما في الرقص. كنت سأسألك عن صحتك، وكنت ستجيبين: «أنا منيحة فارعة، أنا منيحة، بتعب شوي أول يومين من الثيراپي وبعدين خلاص، أنت خبريني كيف نادية شو صار معها؟»، وكنت سأخبرك بآخر التطورات وأنا أتبعك بين المطبخ وغرفة الطعام تنقلين أطباق الطعام إلى المائدة. كانت خدمة ضيوفك من أكبر متعك في الحياة. كنت سأحظى بكل هذه اللحظات الحقيقية معك.

لكن موعدنا ظل مُعلقاً. كنت أتمنى أن أستعيد معك بعض الذكريات.

هل تذكرين لقاءنا الأول في السابع عشر من كانون الأول (ديسمبر) 2008 في بناية ستاركو وسط بيروت؟ قابلتني هناك مساءً، استجابة لمكالمة هاتفية عرفتك بنفسي، وطلبت مقابلتك لأمرٍ خاص. وافقت على الفور، وعندما سألتك عن سرعة استجابتك، قلتِ لي حينها إن صوتي وأسلوبي في الحديث شجعاك، ورغم أن المكالمة كانت مقتضبة جداً، لكنك شعرت بأن الأمر يستحق، هكذا أجبت وأضفت: «وأنا بحب الكويت».

طلبت منك خدمة حينها، بأن تخصصي لنا (ابنتي نادية وأنا) ساعات من وقتك الثمين لتجمع نادية مادة عن حياتك، من أجل فيلم وثائقي يتعلَّق بدراستها حين كانت تحضر الماجستير في صناعة الأفلام بلوس أنجلس.

رحبت، وحددت الموعد، ومن هنا بدأنا - أنت وأنا- نغزل خيوط صداقتنا.

كنت سأستعيد معك هذه الذكرى وغيرها، لكن موعدنا ظل مُعلقاً.

عزائي يا غاليتي أن لقاءنا الأخير لم يكن بعيداً جداً، فقد أكرمني الله برؤيتك وعناقك في الثاني من يوليو الماضي. كنت كما أنت مبتسمة باطمئنان وسلام تخدمين ضيوفك بحُب غامر، كالمعتاد.

صديقتي الرائعة جيزال...

في رحلة الحياة نلتقي ونتعرَّف بالكثيرين، وقد ننجح في تكوين صداقات كثيرة، خصوصاً في فترة الشباب، إلا أن الأيام والمواقف والسنين لا تتيح لنا الحفاظ عليهم جميعاً، فيتساقط الكثير منهم في الطريق، ولا يتبقى إلا القلة القليلة الصادقة.

هؤلاء هم الذين تستقبل أرواحنا أرواحهم بلهفة، ويتربعون على قلوبنا.

هؤلاء هم الذين نفتقدهم عندما يغيبون.

هم وحدهم الذين سنسمي الأماكن والأحداث والتواريخ بأسمائهم.

هم وحدهم الذين سنتذكر كتبهم وأغانيهم المفضلة وكلماتهم وحركاتهم.

هؤلاء هم أصدقاء العُمر الذين بهم ومعهم يصبحون عائلتنا المختارة.

أنت يا صديقتي أحد أهم أفراد عائلتي المختارة.

منذ خمسة عشر عاماً وأنا أحظى بثراء هذه الصداقة، ثراء إنساني وثقافي لا يُضاهى.

تبادلنا الكثير من الحكايات والأخبار والآراء، جمعتنا المشاريع والكُتب، وربطنا الكثير والكثير من الحُب والاحترام. كنت تملكين فيضاً من الحُب لا ينضب، يغمر كل مَنْ حولك، شهدته في علاقاتك، بدءاً بوالدتك (لروحها السلام)، ومع رنا ومروان والأحفاد، ومع ضيوفك في بيتك العامر بالعقيبة.

إلى جان دارك لبنان...

التي لم تكتف بحمل هموم وطنها لبنان، وهي هموم كبيرة عامة خاصة تمسها بشكل مباشر كأي مواطن لبناني، لكن قلبها الكبير اتسع لحمل كل القضايا الإنسانية، وظلت فلسطين قضيتها الكبرى.

ناضلت بشراسة من أجل حرية الصحافيين وحمايتهم، فنجحت في إطلاق سراح الكثير منهم ممن سُجنوا بسبب الكلمة الحُرة.

إلى صديقتي القائدة الرائدة...

كنت قائدة استثنائية ورائدة في كل دور تختارينه لنفسك. ربطت بذكاء بين الأهداف الرئيسة لمؤسسة سمير قصير، وبين أهداف ثقافية وضعتها لتساهم في إنعاش مدينتك الغالية العريقة التي تشبهك (بيروت). أسست مهرجان ربيع بيروت، فأنعشت به المشهد الثقافي من جهة، وساهمت في إطلاق وإشهار فنانين لبنانيين في شتى المجالات الفنية من جهة أخرى.

أطلقت جائزة سمير قصير لتشجيع الشباب وتمكينهم في المجال الإعلامي.

دافعت عن الشباب العربي واللبناني بالذات. دافعت عن مواقفهم ومحاولاتهم الجادة للتغيير وحقوقهم التي ضاعت في أوطانهم.

جيزال سيدة الإعلام العربي من دون منازع، لم تهرول يوماً نحو الشهرة أو نحو المال، رغم أنها لو أرادت لحصلت على الاثنين بسهولة.

إلى صديقتي التي لا تشبه أحداً...

ممتنة أنا جداً لأنك ملأت حياتي بحضورك الثري.

ممتنة أنا لأنك، ومنذ اليوم الأول لتعارفنا، غمرتني بمحبتك وكرمك. لن أنسى دعمك المهني اللامحدود لـ «لوياك»، إن كان من خلال التغطيات والمقابلات الإعلامية، أو مساهماتك في تدريب وتأهيل العشرات من الكوادر الإعلامية الشابة الكويتية والعربية.

شكراً لأنك كنت لي قدوة رائعة.

ممتنة أنا لكل سبب ذكرته، ولكل سبب لم يتسن لي ذكره.

يقول صديقنا ريكاردو كرم في مقابلته الأخيرة الرائعة معك: «من السهل أن نفوز بمحبة الناس، لكن من الصعب أن نفوز باحترامهم، وأنت فزت بالاثنين معاً». خجلت، فأجبت بتواضع جم لا أعرف.

تأكدي يا صديقتي أنك فعلاً فزت بالاثنين معاً، لأنك كنت حقيقية، اخترت الأصالة عن الزيف، وحافظت على نفسك من الانزلاق إلى هاوية الإعلام المبتذل المأجور، فتربعت ملكة على عرش مصداقية الخبر والاستقامة.

إلى جيزال...

التي شغفت بالحُب، فهزمت الخوف. بيروت ليست بيروت بعدك يا جيزال. كانت حزينة بيروت، وازدادت حزناً برحيلك. رحلت بمزيج من الشموخ والتواضع في خضم كل هذه الأحداث العربية، المبهج منها والموجع. ودعت الكل، واعتذرت للكل، ثم وبحس وشفافية القديسين، أهدتنا أغنية وداعها «بدنا نكمل» للست فيروز:

غمر الطوفان الأرض ورجعوها اللي بقيو

هدمت الحروب المدن وعمروها اللي بقيو

استعبدوا الظلام الناس حرروهن اللي بيقو

بدنا نكمل المشوار وقلال يكون منكمل بللي بقيو

بدنا نكمل بللي بقيو قلال قلال يكون شو هم منكمل بللي بقيو

كتار قلال منكمل بللي بقيو

زرعت الحب والأمل قبل رحيلك، وهمست لنا:

«كملوا باللي بقيوا»

جيزال نحبك...

جيزال لروحك السلام.