قد يستغرب البعض حواراً بين شخصين من رواد وسائل التواصل الاجتماعي يتعاتبان من خلاله على تجاهل- قد يبدو مقصوداً- بعدم تعليق أحدهم على منشور الآخر أو على تعمّد مزعوم بعدم الضغط على علامة الإعجاب «لايك»! ورغم أن الأمر قد يبدو بسيطاً وربما سخيفاً، فإنه أصبح واقعاً لا بد من الاعتراف بحقيقة وجوده والتعامل معه نفسياً واجتماعياً على محمل من الجد، حيث أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي واقعاً مهيمناً في عصر الرقمنة يتفوق في تأثيراته الاجتماعية والفكرية والنفسية، حتى القانونية، على كل الأنماط التقليدية للتواصل والتعامل بين البشر.

فعندما كان الخبر في العصور الوسطى وما قبله يتطلب أياماً وربما شهوراً لينتشر بين مجموعات بشرية محدودة، أصبح ما بعد الثورة الصناعية موضوع انتشار أسرع وتفاعل أوسع، إلى أن وصلت بنا الحال في عصر الإنترنت إلى معاناة سكّان الكرة الأرضية من كم هائل من المعلومات والأخبار التي يتم تناقلها بغضون أجزاء من الثانية مع انكشاف مقلق لكل الخصوصيات الشخصية والأسرار المؤسساتية، وارتباط مخيف لبني البشر بالتقنيات التي تصلهم افتراضياً بالآخرين! فرغم تطور العقل البشري ووصوله إلى ما قد يبدو أنه قمة الإنجاز وربما الإعجاز، لم تواكب التركيبة النفسية للإنسان، على اختلاف الأنواع والأجناس والأعمار، هذا التطور بالدرجة والسرعة أنفسهما، فلم تختلف كثيراً طبائع المرأة المعاصرة عمّا جبلت عليه بنات حواء في القرون السابقة، ولم تتبدل انفعالات الرجل وميوله وغرائزه عمّا كانت عليه في الأزمنة الغابرة، ولم يفقد الأطفال منذ مئات السنين براءتهم الفطرية، وهذا ما يرتبط بالاستنتاج الحتمي أن جميع انفعالاتنا النفسية الإيجابية والسلبية التي تطبع علاقاتنا الواقعية هي نفسها التي تهيمن على تفاعلاتنا في العالم الافتراضي.

Ad

المحبة، الغيرة، الغرور، الانزعاج، الملل، الإعجاب، التواضع، الثرثرة، التفاعل الإيجابي، الحشرية، الفضول العلمي، الميل للخدمة العامة، كلها أحاسيس وانفعالات وميول تصلح لوسم وتحديد علاقتنا مع الآخرين في وسائل التواصل الاجتماعي كما في عالمنا الواقعي، فكما يمكن لأي سلوك أو تفاعل أو تصرف أن يؤدي إلى تمتين أو توتير العلاقات في الحياة الحقيقية، فإن وجود أو غياب أيقونة «الإعجاب» مثلاً من أسفل منشور في وسائل التواصل الاجتماعي من شأنه أن يؤثر على كثير من الأشخاص عاطفياً ومعنوياً وقد يتحكم بحسن أو سوء علاقاتهم الثنائية والجماعية.

لا شك في الدور الإيجابي لوسائل التواصل الاجتماعي بما أتاحته منصاتها من فرص غير مسبوقة للتواصل والتعارف والمشاركة، ومع ذلك فقد أفضى الارتباط الكبير للبشرية بها إلى مجموعة من المخاطر تشمل ما يمكن أن نسميه شيوع «الجفاء الإلكتروني».

«الجفاء الالكتروني» يتأتى برأيي من ردة الفعل السلبية على سلوك وتصرف سلبي وصل إلينا من شخص آخر يتواصل معنا من خلال الشاشة، وهذا الجفاء قد يكون مقصوداً وذلك ارتباطاً بالطباع السيئة والتفاعل السلبي لبعض البشر في العالمين الواقعي والافتراضي على حد سواء، وربما يكون لا إرادياً مع اضطرارنا يومياً لتلقي ومواكبة آلاف المنشورات والرسائل التي يلقيها أصدقاؤنا ومعارفنا في ميادين العالم الافتراضي بطائل أحياناً، ومن دون أي مبرر أو فائدة في كثير من الأحيان، مما يجبرنا على تجاهلها أو استسخافها وعدم التفاعل معها، الأمر الذي قد يؤثر سلباً في بعض النفوس، ويؤدي أحياناً الى فتور العلاقة المتبادلة معهم.

وفي السياق، تكشف بعض الدراسات المتخصصة في علم النفس الاجتماعي والعلاجي أن التجاهل على وسائل التواصل الاجتماعي الذي من شأنه أن يُشعِر الأشخاص بالاستبعاد والعزلة وعدم الأهمية، يمكن أن ينشّط المسارات العصبية نفسها المرتبطة بالألم المعنوي والجسدي، بما يعتبر مطابقاً للتداعيات النفسية ذاتها لعقدة «الاضطهاد» في الحياة الحقيقية.

من جانب آخر، تشجّع منصات وسائل التواصل الاجتماعي على انتشار ظاهرة المقارنة، حيث يقيس الأفراد قيمتهم الذاتية وشعبيتهم من خلال عدد الإعجابات والمشاركات والتعليقات الايجابية التي يتلقونها، الأمر الذي يؤدي في المفهوم المعاكس إلى توتر علاقتهم بالأشخاص الذين لا يبدون الاهتمام بمنشوراتهم أو الذين يختلفون بالرأي مع جاء فيها فيعلقون سلباً عليها مما قد يثير عند ناشرها مشاعر الإحباط والقلق ويؤدي إلى تداعيات سلبية على صحته النفسية وثقته بالنفس.

الحجة التقليدية التي يتمسك بها المتجاهلون لتأثيرات الـ«جفاء الإلكتروني» على البشر قوامها أن التواصل الرقمي يفتقر إلى الحيوية التي تتمتع بها المحادثات وجهاً لوجه، مما يجعل من السهل وغير المؤثر التفاعل السلبي مع آلاف المنشورات الكثيرة التي تطالعنا كل يوم، وعلى العكس من ذلك يذكّر المتأثرون بـ«الجفاء الإلكتروني» أن الأشخاص الذين يجسلون خلف الشاشات هم أفراد حقيقيون بمشاعر وأحاسيس يلتزمون من خلالها بمقولة «عامل الآخرين كما تحب أن تعامل» في العالم الافتراضي كما في العالم الواقعي.

ومع بقاء الموضوع مثار جدل لا يبشّر بتوافق حتمي، أصبح من الضروري أن نكون جميعاً حذرين من تصرفاتنا على وسائل التواصل الاجتماعي مع إدراك العواقب المحتملة لأي سلوك غير لائق، ذلك لأن وجودنا في العالم الافتراضي صار واقعاً أكثر التصاقاً بنا من واقعنا الحقيقي، كما أن أي تنمر أو تحرش أو قدح أو ذم أو إساءة أو استغلال أو سرقة يكون ميدانها وسائل التواصل الاجتماعي قد تُشكل فعلاً مجرّماً قانونياً وأخلاقياً، ناهيك عن تأثيراتها النفسية والاجتماعية التي قد تخلص الى جفاء ثنائي أو جماعي وربما لخلافات وانشقاقات أوسع نطاقاً من ذلك.

* كاتب ومستشار قانوني