لم يعد مفاجئاً أن نصادف في جميع مجالسنا من يحاول التعمية على فساده بالمحاضرة في العفّة وادعاء التقوى وتلبّس الزهد زوراً، فالكل يدّعي الصلاح، في حين يشي الواقع بأن جزءاً كبيراً من مجتمعاتنا قد انغمس، ولو بغير قصد أو إرادة، بدائرة المجاملة والتغاضي والمحسوبية والاسترزاق ضارباً عرض الحائط بكل الالتزامات القانونية والتقاليد المجتمعية والثوابت الأخلاقية، وهذا ما يدخل- على اختلاف أنواعه ودرجاته- ضمن التعريف العلمي للفساد. فمن منّا لم يتجاوز طابور المنتظرين في الإدارات الحكومية مستفيداً من «معرفة» مكّنته من ذلك؟ ومن منّا لم يحصل على ما قد لا يستحقه بفضل خدمات من «يمون عليه»؟ ومن منّا لم يدفع- ولو مضطراً- «إكرامية» هنا أو تكاليف «كوب شاي» هناك؟ ومن منّا لم يستفد من سوء أداء أجهزة التفتيش أو قلة خبرة فرق الرقابة للتغطية على مخالفة ارتكبها؟ ومن منّا لم يستفد مما مكّنته منه وظيفته من أدوات مادية وتأثيرات معنوية؟ ومن... ومن...؟ الفساد هو ظاهرة تتجاوز حدود الزمان والمكان، وهو أحد التحديات الأكثر إلحاحاً مما يواجه المجتمعات في جميع أنحاء العالم، وذلك كونه مشكلة معقدة التركيب تمسّ جميع المستويات والفئات من الأفراد والمؤسسات بأوجه وأنماط متعددة، منها: الإداري، والقضائي، والسياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، وربما الخيري أو الديني. في العادة يُطلق لفظ «فاسد» على من يسيء استخدام السلطة بغية تحقيق مكاسب شخصية غير مشروعة على حساب المصلحة العامة، وعادة ما نغفل أن لكل فاسد شريكاً بالتحايل على القوانين يتمثّل بالطرف الآخر من جرائم الرشوة والاختلاس واستغلال النفوذ والتزوير والاعتداء على الأموال العامة، وغيرها من الجرائم الشبيهة، فمهما ادّعينا الصلاح، فإن للفساد وجوهاً كثيرة وللفاسدين شركاء قد يكونون الأسوأ في هذا الدائرة المشبوهة.

***

Ad

الإصلاح الحقيقي لا يمكن أن يتحقق بالادعاء أو بركوب موجة جارفة ينحصر زخمها تدريجياً، كما أنه لا يكون بالتهرب من المسؤولية من خلال التلطي خلف هالة الصلاح، ذلك لأن الإصلاح يحتاج الى مصلحين لا الى صالحين فقط، وهو يتطلب مشاركة فردية وجماعية في تنزيه أنفسنا عن موبقات الغوص في أدنى درجات الفساد وأبسطها، وذلك تلافياً لمأثورة مفادها أنه «ليس هناك نصف حرامي»، بمعنى أنه من يسرق قفل الباب يدخل في بوتقة السارقين حاله كحال من يفرغ المنزل من محتوياته، ومن يمدّ يده على بيضة يستسهل سرقة الدجاجة، ومن يستهين بسرقة الدجاجة سيتطاول على المزرعة ومقتنيات صاحبها...

الصالح موعود بالجنّة، وذلك تصديقاً لقوله تعالى في سورة البقرة: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»، إلا أن ذلك لا يمنع أن يهلك الصالح بجريرة مجتمعه الفاسد وبخطيئتي التجاهل والانزواء المؤديين الى تفاقم الرذيلة وعمومها، فقد روي في صحيح البخاري عن سؤال زينب بنت جحش لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أَنَهْلِكُ وفينَا الصَّالِحُونَ؟» ليأتيها الجواب ممّن لا ينطق عن الهوى: «نَعَمْ، إذَا كَثُرَ الخَبَثُ». بالمقابل، ينال المصلح من خيري الدنيا والآخرة، فهو الضمان الوحيد لمجتمعه من الهلاك المحتوم، والأمر في ذلك مبتوت تصديقاً لوعده عزّ وجلّ في سورة هود: «وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ»، والمراد هنا هو الإصلاح الحقيقي القائم على الجرأة بالقول والإخلاص بالفعل والإنصاف بالحكم والحكمة بالتصرف.

***

على الرغم من التحديات الكبيرة التي تواجه دولنا ومجتمعاتنا في مكافحة الفساد، يبقى الأمل بالتزام كل منّا بدور المصلح، لذواتنا قبل مجتمعاتنا، من خلال التقيّد بتنفيذ القوانين وتطبيق مفردات الحوكمة، والالتزام بالشفافية والنزاهة، وحسن التصرف في الشؤون الخاصة والعامة، فالطالب بالتزامه يساهم في صنع مستقبل أفضل لبلاده، والعامل بإخلاصه لا ينتج إلا خيراً، والإمام في مسجده هو الأنموذج والقدوة، والمسؤول الحقيقي يعرف أن صفته ترتبط بالمساءلة والحساب، وربّ البيت إذا كان بالدفّ ضارباً فشيمة أهل البيت كلّهم الرقص!

***

«إنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ»، وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ، «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

* كاتب ومستشار قانوني