تفاءل الكثير من القانونيين والمدافعين عن حقوق الإنسان في مختلف البلدان حين تم اعتماد نظام المحكمة الجنائية الدولية بتاريخ 17 يوليو 1998، وزاد حماسهم حين دخل نظامها حيز النفاذ بعد أقل من أربع سنوات في الأول من يوليو 2002.

وشكل اعتماد هذا النظام بارقة أمل وتفاؤل بمستقبل واعد تُحاسب فيه الدول التي ستصادق عليه أو تنضم له على ما ترتكبه من جرائم إبادة الأجناس، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وأضيفت لاحقا جريمة العدوان إلى اختصاصات هذه المحكمة.

Ad

وصادق حتى تاريخه على نظام هذه المحكمة الدولية 123 دولة من دول المجتمع الدولي من بينها خمس دول عربية، هي: الأردن، وتونس، وجيبوتي، وجزر القمر، وفلسطين، كما وقعت على هذا النظام عشر دول عربية أخرى.

لا نسعى من خلال هذا المقال للحديث عن المحكمة واختصاصاتها، بل سنحاول أن نبيّن أنها تتعامل بمكيالين فيما يتعلق بالقضية الأوكرانية من طرف، والقضية الفلسطينية من طرف آخر، من خلال مواقف وتصرفات المدعي العام لهذه المحكمة البريطاني كريم خان مع كلا القضيتين.

فقد أوضح أحد القانونيين الأوربيين، وهو محام ومدع عام أمام المحاكم الجنائية الدولية، في مقال نُشر على الموقع الإلكتروني لصحيفة اللوموند الفرنسية في 21 سبتمبر 2023، أن المحكمة الجنائية الدولية أصدرت بتاريخ الجمعة 17 مارس 2023، وبعد فترة وجيزة من مرور عام على بدء الحرب في أوكرانيا، مذكرتي توقيف في حق كل من الرئيس الروسي ومفوضة حقوق الطفل في روسيا، كما أن المدعي العام للمحكمة زار أوكرانيا أربع مرات خلال عام، وتم افتتاح مكتب للمحكمة في العاصمة الأوكرانية كييف، وتكليف طاقم كبير من القانونيين والمتخصصين على الأرض لمتابعة الأوضاع في أوكرانيا.

ويختلف هذا الوضع كلية مع الوضع الذي يتعامل فيه المدعي العام البريطاني مع القضية الفلسطينية، فهو لم يزر البتة لا فلسطين ولا إسرائيل، ولا يفكر حتى بفتح مكتب للمحكمة في الشرق الأوسط، ولا تخصيص ميزانية له تسمح بالقيام بتحقيقات مفيدة في فلسطين وما يتم ارتكابه من جرائم في حق الشعب الفلسطيني، وذلك على الرغم من انضمام دولة فلسطين لنظام المحكمة وهو ما يثبت برأينا حسن النية في التعامل مع المجتمع الدولي وقواعده من جهة، والانفتاح على كل ما يتعلق بتحقيق العدالة الجنائية بفضل نشاطات هذه المحكمة، من جهة ثانية.

ويتابع هذا القانوني تحليلاته بالتأكيد على وجود تشابه بين الوضعين في فلسطين وأوكرانيا، فإسرائيل احتلت أراضي عربية، كما احتل الاتحاد الروسي أراضي أوكرانية، كما لم تنضم كلا هاتين الدولتين إلى نظام المحكمة الجنائية الدولية، ويمتلك المدعي العام للمحكمة، وبحسب هذه التحليلات، عوامل مهمة تسمح له باعتبار القضية الفلسطينية من أولوياته تبعا لما يرتكبه الجيش الإسرائيلي من جرائم في الأراضي العربية المحتلة وغزة، وهو ما وثقته وكالات الأمم المتحدة، ومنظمات المجتمع المدني المختلفة في أكثر من مناسبة، وتدخل هذه الجرائم في اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية.

لا يمكن إثبات مصداقية المحكمة الجنائية الدولية ولا فعاليتها إذا كانت تتعامل مع مختلف القضايا بمكيالين، ولا يمكن أن نلوم بعض الدول التي فكرت بالانسحاب من نظام هذه المحكمة ولا أن نتجاهل العديد من الانتقادات الموجهة إليها وبخاصة تعامل المدعي العام مع بعض القضايا التي تدخل في اختصاصاتها، لكن يجب ألا نشكك في أهمية قيام المحكمة الجنائية الدولية وتعدد اختصاصاتها وأهميتها على الرغم من هذه الانتقادات التي يمكن أن نتفهمها ونتفاعل معها.

ليست المشكلة برأينا في المحكمة واختصاصاتها لكن في شخص المدعي العام ودوره والصلاحيات الممنوحة له، ويبقى هذا الدور حساس جدا ومهما للتمهيد لمحاكمة المسؤولين عما يتم ارتكابه من انتهاكات تدخل في مجال عمل هذه المحكمة وبشكل يسمح بالوصول قدر الإمكان إلى تحقيق العدالة الجنائية الدولية المنشودة، والحاجة ملحة اليوم لأن تتعامل المحكمة بطريقة إيجابية وشفافة وصادقة مع القضية الفلسطينية وما يُرتكب من جرائم في حق الفلسطينيين في الأراضي العربية المحتلة وغزة.

* أكاديمي وكاتب سوري مقيم بفرنسا