أشرنا في حلقة سابقة إلى الزخم اللافت للنظر الذي يمهد الطريق لتطبيع تعدد الهويات الجنسية في العالم وفي ألمانيا ويمده بالدعم اللازم والضغط إن استدعى الأمر، بما يقف وراء ذلك الزخم من إعلام، وشركات، ومؤثرين في التواصل الاجتماعي وحكومات أيضا، إلا أن ذلك لم يثن طالبة الدكتوراه في معهد البيولوجيا في جامعة هومبولدت ببرلين، ماري لويزه فلبرشت عن إلقاء محاضرتها، وهي الحادثة الثانية التي شغلت الرأي العام الألماني في هذا الصيف.

جاء ذلك بعد أن أعلنت الجامعة موسمها الثقافي متضمنا محاضرة للآنسة فلبرشت بعنوان «لماذا هناك فقط جنسان؟»، لكن يبدو أن في صياغة العنوان ما يكفي لاستفزاز قوى اليسار الذين تعج بهم برلين، فما كان من جماعة طلابية يسارية تطلق على نفسها رابطة الحقوقيين النقديين أن هددت بتسيير مظاهرة في حال عقدت المحاضرة، فبحسب قولهم لا ينبغي للجامعة أن تكون منبرا لأعداء التعدد الجنسي، فقد عرفت الآنسة فلبرشت أنها نسوية نشطة، كما كانت ضمن آخرين وجهوا رسالة انتقاد إلى التلفزة الرسمية الموجهة للطفل في ألمانيا مفادها أن تقديم مادة تتضمن تطبيعا لتعدد الهوية الجنسية يعد أمرا في غاية الخطورة.

على أية حال جاءت المفاجأة من إدارة الجامعة بإعلان إلغاء المحاضرة تجنبا لأي مواجهات، وكان لهذا الإعلان ما أثاره من موجة انتقاد عمت ألمانيا ناهيك عن المؤسسات الأكاديمية؛ إذ كيف ترضخ إدارة جامعة بعراقة وشهرة جامعة برلين للابتزاز عوضا عن الإصرار على مزاولة دورها منارة للعلم، وإذا كانت غير قادرة على ذلك فهل مازالت الجامعة مراكز للرأي الحر، أم أكواخا للإملاء؟
Ad


إلا أنه تحت ضغط الرأي العام وحفظا لماء الوجه أعلنت إدارة الجامعة مجددا موعدا لاحقا للمحاضرة حيث ألقيت بالفعل، لكن ما يثير استغراب المراقب في أعقاب ذلك هو ضجيج الصحافة والحسابات الإلكترونية المعارضة للمحاضرة بأن فلبرشت لم تقدم أدلة جديدة على فرضيتها، لكن الحقيقة أن ما طرحته فلبرشت ليس فرضية، بل حقيقة، أو لنقل فرضية أثبت صحتها التاريخ البيولوجي للإنسان وللأنواع القريبة منه في شجرة الحياة، أجل إن دعيت فرضية فكفى بهذا العمر المديد من تاريخ الأحياء على ظهر البسيطة إثباتا، فالحجة يجب أن تقام على الجانب الآخر بأن هناك أكثر من جنسين.

وهذا لربما ما حاولت فلبرشت التمهيد له إلا أنه لم ينل التغطية الإعلامية الكافية، فعلم الأحياء، ابتداء من الكراسات التعليمية وحتى أحدث نتائج البحث العلمي لا يعرف سوى هذين الجنسين، أي الذكر والأنثى، في حين أن التعدد الجنسي الذي يعلنه ليس إلا طموحا سيكولوجيا وفكرة تلقفتها المذاهب اليسارية الغربية لاستكمال ودعم دعواها بالمساواة والعدالة الاجتماعية، ولا تستبعد فلبرشت أن يكون مرد دعوى تعدد الهويات الجنسية إلى لبس لغوي، أو خلط عابر للغات من مصدره الإنكليزي، وذلك بين معنى (جنس) كما هو في علم الأحياء، و(جنوسة) Gender بمعنى الشعور السيكولوجي والسلوك الاجتماعي لصاحب أو صاحبة الهوية الجنسية بصرف النظر عن التكوين البيولوجي.

وحيال مثل هذه الحقائق على بدهيتها وبساطتها لم يكن يملك الفريق المعارض أي حجة مقنعة سوى اجترار الخطاب اليساري المعروف، ففي سياق لاحق أجابت رابطة الحقوقيين النقديين بأن موقفها ليس معنيا بالحقائق العلمية الواردة في المحاضرة ولكن معارضة لشخص المحاضرة بما عرف عنها من عدم اعتراف بتعدد الهويات الجنسية، إذاً حسنا فعلت الآنسة فلبرشت حين استعفت عن أي نقاش يعقب المحاضرة، فقد فطنت إلى جمهورها الذي غلب عليه أيديولوجيو الجنوسة!