مصدر السلطات جميعاً

في مقال الأحد الماضي تحت عنوان «الحكم الديموقراطي فريضة إلهية في الإسلام» على سند من الآيتين الكريمتين «وشاورهم في الأمر» و«وأمرهم شورى بينهم» باعتبارهما أمرين إلهيين، من خالفهما، سواء كان حاكماً أو محكوماً، فقد خالف شرع الله، وارتكب إثماً عظيماً.

Ad

فالنبتة الأولى لنظام الحكم الديموقراطي كانت في ديننا الحنيف دون غيره من كتب سماوية، دعت ما لقيصر لقيصر وما لله لله (المسيحية) أو جعلت الحاكم هو اختيار الرب (الأحبار والكهان) في اليهودية، وهو ما تناولته في مقالي الأحد الماضي بالتفصيل، وبالقدر الذي يتسع له المقال الصحافي.

ثم جاء عصر الخلافة الراشدة، مكملاً عصر النبوة، ليكون أول حكم ديموقراطي عرفته البشرية، واكتملت حلقاته بسيدنا عمر بن عبدالعزيز، أمير المؤمنين، في العصر الأموي.

إلا أن فريقاً منا ناصب الحكم الديموقراطي العداء، واعتبره كفراً، ومنهم علماء أجلاء، قالوا إن الإسلام هو الحل، لا الديموقراطية، دون أن يبنوا على هاتين الآيتين في الشورى، الحكم الديموقراطي الذي بناه الغرب، بعد ثورات بعضها سلمي وبعضها دموي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وتفننوا بعد ذلك في صياغة هذا الحكم، في نصوص منمقة تبهر الناظرين، في وسائله وأساليبه وأدواته، مفصلة غاية التفصيل، لينسبوا لهم وحدهم نشأة هذا النظام.

معجزة الحكم الديموقراطي في القرآن

ولئن بلغت الآيتان الكريمتان «وشاورهم في الأمر» و«وأمرهم شورى بينهم»، من القصر مبلغاً، لا يتناسب مع أهميتهما، لأنهما تنظمان الأساس المكين في بناء الأمة من أفراد متساوين، وصفهم النبي، صلى الله عليه وسلم، في حديثه الشريف، بأنهم متساوون كأسنان المشط، فلا تفريق في الشورى، بين سادة وعبيد، كما كانت تدار شؤون بلاد الإغريق والرومان.

فهذا القصر في هاتين الآيتين، هو سر عظمة القرآن الكريم ومعجزة من معجزاته التي لا تعد ولا تحصى، وقد تضمنتا خطاباً سياسياً، يتعلق بشؤون الحكم، وهي أوضاع متغيرة بطبيعتها، والسياسة وفقاً لتعريف الفلاسفة والمفكرين هي «فن الممكن»، الأمر الذي كان إجمال القرآن الكريم هذا الخطاب، ولم ينزل وعدم النزول إلى تفاصيل الحكم الديموقراطي وأسالبيه وأدواته، كما فعل في العبادات والمواريث وغيرهما، لأن الخطاب السياسي في هاتين الآيتين، يحكم أوضاعاً متغيرة بطبيعتها، فلا يلبي أي نظام ثابت دائم متطلبات التغيير، والقرآن خالد وثابت في كل زمان ومكان، وقد قال المولى عز وجل «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً».

إذ يغدو وضع نظام للحكم ثابت ودائم لا يتغير توجها منصرما، وكانت مقاصد القرآن وغاياته الكلية من ذلك أن يضع الإنسان، الذي جعله المولى عز وجل خليفة في الأرض ما يناسبه من نظام للحكم، متجدد الروافد نابضاً بالحياة والعطاء، وتعبيراً حراً عن مختلف التوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة في المجتمعات على اختلاف توجهاتها، وبما يواكب مستجدات العلوم الإنسانية وتطورها عبر العصور والأزمنة، في ظل وظلال قيم إنسانية عليا أرساها الإسلام في الاعتزاز بكرامة الإنسان وحقه في العدل والحرية والمساواة.

وفي هذا السياق يقول د. عبدالرزاق السنهوري: «إن الشورى هي التعبير الإسلامي عن الحرية، لأنها حرية الفكر والرأي وحصن لحقوق الأفراد والجماعات والشعوب، التي يجب أن يقوم عليها نظام سياسي إسلامي». (رسالته للدكتواره في العلوم السياسية قدمت إلى جامعة ليون الفرنسية في عام 1936).

ليحتضن الإجمال في الخطاب السياسي في القرآن، كل الأنظمة الديموقراطية المعاصرة قديمها وحديثها، من ديموقراطية مباشرة وغير مباشرة، ونظام برلماني ونظام رئاسي، ونظام وسط بين النظامين، مع انعطاف أكبر نحو أولهما أو نحو ثانيهما، وفقا لمتطلبات الزمان والمكان، وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «أنتم أعلم بشؤون ديناكم».

سيادة الأمة

وليحتضن هذا الخطاب السياسي الوارد في هاتين الآيتين المبدأ الدستوري القائل بسيادة الأمة، وأنها مصدر السلطات جميعا، الذي ورد في كل الأنظمة الديموقراطية الحديثة، بأسلوب مختلف عن الآخر، ويتفاوت بينها في كل بقعة من بقاع الأرض، وعلى مدى العصور والأزمنة.

ولكن يبقى القرآن حاضنا لهذا المبدأ الدستوري، وهو الأعلى قدراً والأعز مكاناً والأعظم شأناً في الحكم الديموقراطي المعاصر، حيث جاء الأمر الإلهي لنبيه ورسوله سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، وهو أعظم البشر جميعاً، في الآية الكريمة «وشاورهم في الأمر» أمراً بسيادة الأمة، ويتساند مع هذا الأمر في هذه الآية، في الأغراض النهائية والمقاصد الكلية التي تجمعهما، قوله تعالى: «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ»، وقوله سبحانه: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ»، وقوله عز وجل: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ».

وفي عصر النبوة تأسست أول دولة في الأمة الإسلامية برئاسة النبي، صلى الله عليه وسلم، الذي تمت له البيعة، وعاصمتها المدينة المنورة، وكان يجمع بين كل السلطات لبساطة الحياة في ذلك الحين، ولكنه طلب من المهاجرين والأنصار اختيار سبعة نقباء منهم، والنقيب لغة في المعجم الوسيط، هو المعني بشؤون القوم، ليشاورهم في أمور الحكم والحرب، كما كان يشاور غيرهم من الصحابة، وهؤلاء النقباء، هم النواب في المجالس التتشريعية المعاصرة.

وفي عصر الخلافة أجاد الخلفاء الراشدون قراءة الآيتين الكريمتين الخاصتين بالشورى، وأحسنوا فهمهما، ووفقوا إلى استقصاء الصواب منهما، في مبدأ سيادة الأمة وأنها مصدر سلطاتهم، وقد كانوا أقرب الصحابة إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأكثر بصراً بشريعة الإسلام، وأعمق إدراكاً للتفسير الصحيح لآيات القرآن الكريم ومبادئه السامية، في أقوى خطاب سياسي لحاكم، ألقاه سيدنا أبو بكر أول الخلفاء الراشدين، بعد بيعته للخلافة: «إني قد وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني»، إلى أن قال: «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم».

ويخطب سيدنا عمر أمير المؤمنين على المنبر: «أيها الناس من رأى منكم في اعوجاجاً فليقومه»، فيجيبه أحدهم: «لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد السيف»، فيرد عليه سيدنا عمر، رضي الله عنه «الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوم اعوجاج عمر بسيفه».

وفي الفقه الإسلامي المعاصر يقول د. محمد يوسف موسى، في مؤلفه القيم نظام الحكم في الإسلام، «إن مصدر السيادة هو الأمة وحدها، لا الخليفة لأنه وكيل عنها». (ص124).

ويقول الشيخ عبدالوهاب خلاف: «إن الرياسة العليا في الحكومة الإسلامية مكانها مكان الرئاسة العليا في أي حكومة دستورية، لأن الخليفة يستمد سلطته من الأمة». (السياسة الشرعية– ص58).

ويرى د.توفيق الشادي، أن «الشورى ملزمة وأن هناك فارقاً كبيراً بين الشورى والاستشارة، فالأخيرة هي التي لا إلزام فيها» (في كتابه فقه الشورى والاستشارة، ص120).

وفي هذا السياق أيضاً يقول د.عبد القادر عودة «إن الشورى، لن يكون لها معنى إذا لم يؤخذ برأي الأكثرية، أي إذا لم تكن ملزمة». (الإسلام وأوضاعنا السياسية– ص162). وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام «لا تجتمع أمتي على خطأ أو ضلالة».

ولا ضير في أن نذكر في هذا السياق بعض أبيات من الشعر قرضها الشاعر إيليا أبو ماضي في النصف الأول من القرن الماضي تصف حالنا حتى اليوم يقول فيها:

لَمّا سَأَلتُ عَنِ الحَقيقَةِ قيلَ لي

الحَقُّ ما اِتَّفَقَ السَوادُ عَلَيهِ

فَعَجِبتُ كَيفَ ذَبَحتُ ثَورِيَ في الضُّحى

وَالهِندُ ساجِدَةٌ هُناكَ لَدَيهِ

نَرضى بِحُكمِ الأَكثَرِيَّةِ مِثلَما

يَرضى الوَليدُ الظُلمَ مِن أَبَوَيهِ

إِمّا لِغُنمٍ يَرتَجيهِ مِنهُما

أَو خِيَفةً مِن أَن يُساءَ إِلَيهِ