فريضة إلهية

في اختياري عنوان المقال وموضوعه هو اجتهاد باحث في القانون الدستوري بوجه عام، وفي الحكم الديموقراطي بوجه خاص، محاولاً إزالة الغشاوة عن أعين فكر منغلق على نفسه، توارثناه جيلاً بعد جيل يرفض الحكم الديموقراطي، باعتباره منافياً للتوحيد، لأن الحكم لله، كما يرفض البعض القبول بالدساتير الوضعية، وترفع بعض الجماعات الإسلامية شعار «القرآن دستورنا»، بما جعلنا نتفرد وحدنا، بين أمم وشعوب العالم، بإشكالية الدين في الحكم الديمقراطي، وبالعداء لهذا الحكم، وتكفير من ينادي به عند البعض.

Ad

وأرجو من المولى، عز وجل، أن يوفقني إلى حل هذه الإشكالية، في إثبات أن الحكم الديموقراطي هو المصطلح المعاصر لمبدأ الشورى، بما يجعله فريضة إلهية. وقد أمر به المولى عز وجل، في قوله سبحانه لنبيه: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ»، ويأمر الأمة الإسلامية جمعاء بالشورى، في قوله سبحانه «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ».

فالحكم الديموقراطي يعتبر التطبيق السليم لمبدأ الشورى في الإسلام، وهو الحكم الذي ثبت نجاحه في الغرب منذ القرن السابع عشر للميلاد، ولم ينسب هذا الحكم للإسلام، وأن مصدره القرآن الكريم، الذي نزل في القرن السادس الميلادي، قبل قيام المملكة الدستورية في بريطانيا، وقبل الماجنا كارتا التي أعلنت في القرن السابع عشر سنة 1688م، وقبل الثورة الفرنسية سنة 1789، أي أننا أولى بالحكم الديموقراطي، من الغرب وديننا يأمرنا به.

ولست أول من أطلق على الحكم في الإسلام، أنه الحكم الديموقراطي، فقد كتب منذ ما يقرب من قرن من الزمان الكاتب والأديب والمفكر عباس العقاد كتابه القيم «الديموقراطية في الإسلام»، وكان فضيلة الشيخ الدكتور مصطفى الخشاب، والدكتور توفيق الشاوي، والدكتور أمين هويدي، والدكتور محمد سليم العوا، قد سبقوني إلى الرد على حملة العداء للإسلام، وغيرهم، بالتقريب بين الإسلام والديموقراطية، وقد أطلق الدكتور توفيق الشاوي على الشورى، أنها أعلى مراتب الديموقراطية، في كتاب له بهذا العنوان.

ولكنني ربما أكون أول من قال إنها فريضة إلهية لا تقل في مرتبتها عن الفرائض في العبادات. وقد نزلت الآيتان الخاصتان بالشورى بصيغة الأمر للنبي في قوله سبحانه: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ»، ولا يختلف الحال إن جاءت الآية الأخرى بصيغة «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ»، فهو إخبار يحمل معنى الأمر، وهو القائل سبحانه «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ»، فهاتان الآيتان هما جزء من الإيمان بما أنزل إلى الرسول في القرآن الكريم، ومن العقيدة الإيمانية للمسلم.

فالشورى في دين الإسلام هي كلمات من رب العالمين، إن هي إلا وحي يوحى به، رسالة وهدى للعالمين، الأمر الذي غدت معه الشورى والحكم الديموقراطي لمصطلح العصر لها فريضة إلهية، فهي حق المولى عز وجل، كما هي حق الإنسان، فهي ليست حقاً من حقوق الإنسان فحسب، بل هي واجب وتكليف شرعي أيضاً للإنسان الذي يدين بالإسلام، والتكليف بالحكم الديموقراطي هو من صميم وجوهر الدين، وهو تكليف لا اختيار فيه للمسلم، وترك هذا التكليف والحكم بغير مشورة الأمة والحكم بما يخالف الآيتين إثم على الحكام والمحكومين، لأنه يخالف شرع الله.

الديانات السماوية الأخرى

وبذلك يتميز الإسلام عن سائر الديانات السماوية الأخرى بأنه أعلى كرامة الإنسان الفرد، باعتباره نواة الأمة التي تحكم نفسها بنفسها، لتنهض وتتقدم في ظل مبدأين أساسيين، أولهما: الاعتزاز بكرامة الفرد، وثانيهما: الحرص على صالح المجموع، وهو خطاب هدى للعالمين والبشرية كلها. أما في الديانة اليهودية، فإن الحكم خاص ببني إسرائيل وحدهم، والأحبار والكهان هم الذين يختارون الحكام من قبيلة بعينها، هي قبيلة اللاويين التي ينتمي إليها سيدنا موسى عليه السلام، ويتم اختيار الحكام من سلالة معينة من السلالات، والحاكم مدين للرب، لأنه هو الذي اختاره، وهو يكتب عهداً على نفسه، يكتبه الكهان والأحبار.

وقد خاطب موسى قومه «متى أتيت إلى الأرض التي يعطيك ربك إلهك، وملكتها وسكنت فيها، فإن قلت اجعل عليَّ ملكاً كجميع الأمم الذين حولي فإنك تجعل عليك ملكاً يختاره الرب إلهك من وسط إخوتك...».

«وعندما يجلس على كرسي مملكته يكتب لنفسه نسخة من هذه الشريعة في كتاب من عند الكهنة اللاويين...». (الإصحاح السادس عشر- سفر التثنية).

أما في الديانة المسيحية، فإنها تدع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله. إلا أن الحكم في الغرب المسيحي تحول إلى التفويض الإلهى للملوك، والكنيسة، التي أصبحت تطغى على سلطة الملوك الذين كانوا يمارسون سلطاتهم بعنف وقسوة حتى بعد تحررهم من طغيان الكنيسة عليهم، فانتشرت الدكتاتوريات في إسبانيا وفرنسا وإنكلترا وهولندا، وفي المدن الإيطالية التي كان يتبع بعضها النظام الملكي، إلى أن ثارت الشعوب في بدء العصور الوسطى المتأخرة، مثلما أطل علينا بعد الخلافة الراشدة الملك العضوض.

محمد والفلاسفة والمفكرون

ولم يكن محمد، صلى الله عليه وسلم، من المفكرين أو السياسيين الذين يستخدمون الأيديولوجيات السياسية، عندما قرر أن «الناس سواسية كأسنان المشط» وإن كان باعترافهم وإقرارهم هو الأعظم في تصنيف العظماء المئة عبر التاريخ.

وقد كان الفلاسفة والمفكرون في العصور القديمة يقسمون البشر إلى سادة وعبيد، سواء عند اليونان أو عند الرومان الذين أطلقوا على الناس، عدا السادة، أنهم أشياء لا أشخاص، إلى أن بزغ نجم جون لوك في العصور الوسطى (1632 - 1704) السياسي والفيلسوف البريطاني الذي أعلن أن البشر أحرار ومتساوون بحكم الطبيعة، فكان فيلسوف الثورة في إنكلترا سنة 1688 التي أقامت الملكية الدستورية، إلا أن الأهمية التي أعطاها لحقوق الملكية حالت بينه وبين اعتناق المساواة السياسية أو الديمقراطية بمفهومها الصحيح القائم على المساواة.

أما سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، فقد كان إنساناً أمياً، وُلد في أمة من قبائل وبطون وفصائل، لا تعرف من أنظمة الحكم- التي كان يتنادى بها الفلاسفة والمفكرون- شيئاً، وكان كبار القوم من العرب، ومن شيوخ وسادة، يجتمعون من آن إلى آخر للفصل في الخصومات بين الأفراد، لقطع دابر الخصومات، ومن هنا ظهر حلف الفضول بين بعض من خيار القوم وأقويائهم، والذي شارك فيه سيدنا محمد قبل أن يبلغ بالرسالة، كما نشأ محمد، صلى الله عليه وسلم، فقيراً يتيماً يرعى الغنم، إلى أن شبّ، فسلك التجارة طريقاً إلى الرزق، فأطلق عليه قومه الصادق الأمين، إلى أن بلغته الرسالة في غار حراء، ليرى ويسمع ملكاً من ملائكة السماء أرسله المولى عز وجل ليقول له: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ».

فالأمر بالشورى، إن هو إلا وحي يوحى، وقد كان الرسول، عليه الصلاة والسلام، يستفتي أصحابه في شؤون الحرب والحكم، وكان يلتزم بمشورتهم، وهو القائل: «أنتم أعلم بشؤون دنياكم».

الخلافة الراشدة

والواقع أن القرآن لم يشرع نظاماً لاختيار الخلفاء الراشدين، وأنه ليس في السنّة حديث عن نظام ما، لكن المسلمين عرفوا نظام البيعة، عندما بايعوا الرسول على الإسلام بمكة قبل الهجرة، وبايعه نقباء الأنصار على إيوائه ونصرته وطاعته عندما هاجر إلى المدينة، ومبايعات متكررة للنبي، وإن كان هناك فارقٌ بين مبايعة النبي ومبايعة خلفائه، لأن مبايعة النبي كانت لله الذي أرسله وله في آن واحد.

ولم يوصِ الرسول، عليه الصلاة والسلام، بأن يخلفه أحد في رئاسة الدولة، التي أنشأها في المدينة، بل ترك ذلك لمن أمرهم الله سبحانه وتعالى بأن يكون الأمر شورى بينهم، وقد حفلت خطب الخلفاء الراشدين بذلك، وكانوا الأقرب إلى فهم آيات القرآن الكريم، الفهم الصحيح، بحكم قُربهم من الرسول الذي نزل عليه القرآن، وأنهم أجادوا السمع لأحاديثه، أي أن نظام البيعة كان جزءاً من نظام الحكم في الإسلام، وقد بُويع سيدنا أبوبكر أول الخلفاء الراشدين، فقال في أول خطبة له بعد بيعته للخلافة: «إنى قد وُلِّيت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني»، إلى أن قال: «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم».

ويخطب سيدنا عمر أمير المؤمنين على المنبر: «أيها الناس من رأى منكم فيّ اعوجاجاً فليقومه»، فيجيبه أحدهم: «لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد السيف»، فيرد عليه سيدنا عمر، رضي الله عنه: «الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوم اعوجاج عمر بسيفه».

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.