علم الأنثروبولوجي هو علم دراسة البشر وتطورهم عبر الأزمنة، وفهم كل ما يتعلّق بهم من أمور ماديّة وشخصيّة، وبيئيّة وثقافيّة، وعلاقات اجتماعيّة، ويقوم علماء الأنثروبولوجي بدراسة التنوع البشري في أنحاء العالم كافة للتعرف على المعتقدات الثقافيّة والسلوكيات المتضمّنة للغة والدين والعادات والتقاليد بين المجتمعات لتعزيز التواصل والتفاهم فيما بينهم، وتدرك الدول المتقدمة أهمية هذا العلم في حوار الحضارات وفي التجارة والتفاوض والاقتصاد العالمي.

فهناك الكثير من العلماء المستشرقين الذين زاروا الشرق الأوسط منذ القدم لجمع المعلومات عن شعوبه وطوائفه وتضاريسه وتجارته، ولعل الأرشيف البريطاني خير دليل على ذلك، وما زلنا نستغرب عندما نلتقي بعلماء في الغرب من المتأخرين وهم يحدثوننا عن التفاصيل التاريخية والجغرافية لمنطقتنا العربية والإسلامية!! فأذكر أنني التقيت قبل 30 عاماً (1993) بالبروفيسورة لويس بيك، الأستاذة بجامعة سانت لويس ميزوري في الولايات المتحدة، وهي مؤلفة وناشرة للعديد من الكتب والدراسات في مجال علم الإنسان، وقد حدثتني عن تجربتها الفريدة التي عاشتها في ستينيات القرن الماضي مع الأتراك القشقائية (أكبر تحالف قبلي في بلاد فارس) ووثقت ترحالها على مدار السنة مع العشائر البدوية التابعة لهذه القبيلة التي ساهمت في إعادة رسم الخريطة السياسية في المنطقة لا سيما في منطقة جنوب فارس، حيث عُرفوا بأمراء الجنوب منذ نشأة الدولة الصفوية حتى نهاية الدولة القاجارية، أي قبل أكثر من 500 عام.

Ad

وأكدت أنهم ينحدرون من سلالة الأمير غازي نجل أكبر أمراء دولة الأقوينلو التركية الأمير حسن بن علي بن عثمان، وشرحت د. لويس تصدي القبيلة للكثير من الهجمات الاستعمارية في القرون الماضية، فقد هزمت المستعمر البريطاني في معركة بوشهر عام 1865، وكذلك في الحرب العالمية الأولى 1914- 1918، وقد ذكر تشرشل المصاعب التي واجهتها بريطانيا من القشقائية في مذكراته عندما كان وزيراً للحرب آنذاك، وقالت إن القبيلة تولت حكم الكثير من المدن والمقاطعات والقرى والبنادر التي كانت مسقط رأس للعديد من الأسر الكويتية، وأكدت د. لويس أن الكثير من القبائل والأسر العربية انضمت إلى القشقائية كالنعيمي والشيباني والبحريني والنجفي والكعبي والنصاري وغيرهم.

وأنشأت القبيلة تحالفات مع الشيخ جابر المرداو وأبنائه الشيخ مزعل والشيخ خزعل للمحافظة على حكم القاجار ومنع وصول رضا شاه بهلوي لسدة الحكم الذي كان مدعوماً آنذاك من بريطانيا العظمى، ودخلوا في حرب مفتوحة مع رضا شاه بعد انتزاعه الحكم القاجاري الذي كان قائماً على الكونفدرالية واستقلالية الأقاليم، فقام رضا شاه بحربه ضد زعامات الأقاليم وتصفيتهم حتى لا ينافسه أحد على الحكم، فأقال الشيوخ والزعماء ووضعهم تحت الإقامة الجبرية في العاصمة، وقضى عليهم غدراً بمعاونة المستعمر، وفرض التجنيد الإلزامي على أبناء القبائل ومنع المرأة من لبس الحجاب.

لكن القشقائية استمروا في مقاومتهم رضا شاه والمستعمرين، فكانوا يقتحمون السجون لإطلاق سراح الوطنيين والشباب الذين فُرض عليهم التجنيد القسري، وإرسالهم إلى أهلهم في الشطر الغربي من الخليج. وتمكنوا من طرد رضا شاه في عام 1941 وتولى الحكم من بعده ابنه محمد رضا شاه الذي مشى على خطى أبيه، ولكن بأقل حدة!! واستمر القشقائية بمقاومتهم عشرات السنين حتى ثبّتوا رئاسة الوزراء لمصدق وأخرجوا الشاه من البلاد في ثورة عام 1953.

ولكن تغيرت المعادلة السياسية مع تأميم النفط فتدخلت الولايات المتحدة باستخباراتها الـ«سي آي إيه» لإعادة الشاه وإنهاء حكم رئيس الوزراء مصدّق مع نفي زعماء قبيلة القشقائية إلى الخارج كافة والقضاء على من تبقى منهم في الداخل، هذه المعلومات التاريخية والجغرافية لم تكن لتتوافر لولا قيام علماء الأنثروبولوجي بتوثيق ودراسة حياة شعوبنا وطوائفنا، وفهم عاداتنا وتقاليدنا وجغرافية حدودنا وأسباب هجراتنا، فعلينا أن نحذو حذوهم وندرس حياة شعوبهم بشكل علمي وموضوعي حتى نخرج بأفضل النتائج عندما نفاوضهم على أساس أنثروبولوجي.