عادت إلى الواجهة مجدداً أزمة ما يعرف بـ «المعاشات الاستثنائية» عقب إعلان مجلس الوزراء مؤخراً تحديد ضوابط ومعايير منح المعاش الاستثنائي لشاغلي الوظائف القيادية وآلية إضافته إلى المعاش المستحق للوزير وأصحاب درجات «الممتازة ووكيل الوزارة والوكيل المساعد ومن في حكمهم»، ثم تجميد القرار بعدما أثار ردود فعل شعبية رافضة.

في الحقيقة، فإن ملف «المعاشات الاستثنائية» بكل ما ينتج عنه من أزمات سياسية متكررة كالتهديد بالمحاسبة والاستجوابات أو رفض شعبي يترتب عليه مطالبات المعاملة بالمثل لبقية الشرائح الوظيفية؛ هو في أصله نتيجة ترقيع مخلّ لنظام رواتب مختل في أجهزة الدولة منذ فوضى زيادات الكوادر والبدلات الوظيفية عام 2008 وما ترتب عليها من اختلالات أبسطها مالية من حيث غياب العدالة بين الوظائف المتماثلة وغياب آليات التقييم، ناهيك عن توفير بيئة مناسبة لهجرة الموظفين الكويتيين من القطاع الخاص إلى العام بما يعاكس احتياجات الدولة الاقتصادية.

اختلالات واستثناء
Ad


ونتيجة لاختلالات الرواتب الناتجة عن الكوادر المالية وارتفاع رواتب موظفي الهيئات العامة والجهات المستقلة، التي توسعت الدولة في تأسيسها في العشرية الماضية عن رواتب الوزراء والنواب، حتى بات راتب موظف في هيئة ما أو قطاع نفطي أو عسكري أعلى من راتب وزير أو نائب أو وكيل وزارة، نشأت الحاجة للحلول الترقيعية من جهة تفعيل المادة 80 من قانون التأمينات الاجتماعية، التي تتيح منح رواتب استثنائية لفئة القياديين في الدولة مع نواب مجلس الأمة، فضلاً عن المشمولين أصلاً بهذه المادة من قانون «التأمينات» كذوي الإعاقة أو أسر الشهداء ومن تأثرت معاشاتهم التقاعدية سلباً بسبب العجز والمرض والوفاة.

ترقيع وتخريب

ودون تقديم مبررات لقرارات ترقيعية في أصلها، فإن ما نحتاجه فعلاً هو معالجة جذرية لنظام الوظائف والمرتبات في الكويت شاملاً الوزراء والنواب والقياديين والموظفين، ليس فقط فيما يتعلق بالعدالة والمساواة ما بين الموظفين إنما من خلال التعامل مع المشروع الحكومي المتداول منذ نحو 9 سنوات هو «البديل الاستراتيجي» للرواتب بدرجة أكثر جدية وأعمق ارتباطاً باحتياجات الاستدامة الاقتصادية والمالية والخدمية مع الأخذ بعين الاعتبار أن «التخريب» الذي طال النظام الإداري في البلاد بالسنوات الماضية تمثل في أمرين، الأول كان فوضى إقرار الكوادر الوظيفية، الذي ترتبت عليه مراكز قانونية وإدارية ومالية معينة يصعب المساس بها، والثاني تجسد في التوسع بتأسيس الهيئات الحكومية الموازية للوزارات التي أيضاً شهدت تضخماً في أعداد القياديين خصوصاً بدرجات «وكيل مساعد» حتى بلغ إجمالي من هم بدرجة «وكيل أو وكيل مساعد أكثر من 550 قيادياً في الوزارات والهيئات والمؤسسات وما في حكمهم من جهات حكومية.

أضيق الحدود

بالتالي، فإن جل ما تستطيعه الإدارة العامة هو الحد من الضرر والبدء بنظام وظيفي جديد للقادمين الجدد في سوق العمل إلى جانب الوظائف القيادية بما يجعل «منح المعاشات الاستثنائية» مسألة في أضيق الحدود ضمن الحالات الطارئة والإنسانية كالإعاقة أو الوفاة المبكرة أو عدم وجود عائل للأسرة، وليس لتعويض السياسيين أو القياديين مالياً نتيجة وجود اختلالات صارخة في نظام الرواتب ما بين وظيفة وأخرى.

ولعلنا عندما نتحدث عن نظام وظيفي جديد فإن أقرب نموذج متوقع هو ما يعرف بـ»البديل الاستراتيجي للرواتب» الذي يعد الحديث بشأنه أقرب إلى التكهنات أو التخمين، فرغم مرور نحو 9 سنوات على بداية دراسته فإن تفاصيله لا تزال غامضة وأهدافه وآليات تنفيذه مجهولة وحتى مقاصده منحرفة، فأي بديل استراتيجي للرواتب يجب ألا يكون - كما هو دارج حكومياً ونيابياً - من ضمن خيارات تحسين المستوى المعيشي للمواطنين، فهذه مسألة مختلفة تتعلق بجودة الخدمات وكبح لتضخم والحد من الاحتكار وتوفير فرص الادخار والاستثمار وبيئة الأعمال والأهم من هذا كله أن يكون في جانب منه إصلاحاً إدارياً للقطاع العام، وفي جانب آخر تحفيزاً للعمل بالقطاع الخاص.

مراجعة الجهاز الإداري

ولعلنا في مراجعة أي نظام وظيفي يتناول مسألة رواتب القياديين، ومن في حكمهم، بحاجة إلى مراجعة لطبيعة الجهاز الإداري في الدولة، الذي يضم في عدد كبير من الوزارات والجهات العامة قياديين بدرجة وكيل مساعد يبلغ 10 وكلاء أو أكثر وهو نموذج متضخم خصوصاً أن بعض الوزارات قد نقلت جل اختصاصاتها إلى هيئات موازية، بالتالي يمكن دمج العديد من القطاعات ذات الطبيعة والإدارية والمالية والتكنولوجية والتحول الرقمي والقانونية والعلاقات الدولية وما يعرف بمكتب الوزير، تحت إشراف وكيل مساعد إداري واحد أو اثنين بحد أقصى، بينما يتولى وكيل مساعد آخر الشؤون الفنية كالإنتاج الكهربائي أو تنفيذ أعمال المباني والطرق أو الخدمات الصحية أو التعليمية وغيرها حسب اختصاص الوزارة الفني، وكلا الوزيرين تحت إدارة الوكيل الأصيل للوزارة، فضلاً عن إشراف الوزير، ناهيك عن الجدية في دمج أعمال الهيئات العامة المتشابهة في أغراضها، خصوصاً التي لم تحقق أياً من أهدافها منذ تأسيسها لسنوات طويلة، بالتالي لا تقتصر معالجات البديل الاستراتيجي أو المعاشات الاستثنائية على الجانب المالي، إنما على إصلاح ما تم تخريبه في الجهاز الإداري للدولة.

ربما كان فتح ملف المعاشات الاستثنائية باباً يمكن من خلال الاستفادة من درس تم إهماله لسنوات، وبالتالي العمل على معالجته ليس فقط في جوانبه المالية إنما أيضاً الإدارية لتحقيق الاستفادة المثلى بعيداً عن الإجراءات الترقيعية إذا كان لدينا من يريد فعلاً إحداث نموذج ناجح ولو في إطار محدود يتجاوز إخفاقات السنوات الماضية.