لا حديث في إطار الاقتراحات الشعبوية هذه الأيام إلا عمّا يُعرف بـ «تحسين المستوى المعيشي» من خلال اقتراحات تحمّل المالية العامة أعباء مستدامة ومتزايدة، خصوصاً بعد إعلان وزارة المالية الأسبوع الماضي تسجيل أول فائض مالي في الحساب الختامي للسنة المالية 2022/ 2023 بواقع 6.8 مليارات دينار.

ومع أن هذا الفائض لم يكن ناتجاً عن نشاط اقتصادي أو سياسات إصلاح مالي، إنما نتيجة تداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية، إلى جانب خفض مجموعة «أوبك بلس» إنتاج النفط أكثر من مرة، بل إن تفاصيل الحساب الختامي حملت مع الفائض بيانات تؤكد عمق اختلالات المالية العامة كضآلة الإيرادات غير النفطية التي بلغت نسبتها 7.3 بالمئة فقط من إجمالي الإيرادات، أو تركّز الإنفاق العام بنسبة 78 بالمئة على الرواتب والدعوم، أو محدودية استقطاع نسبة 10 بالمئة من الإيرادات لمصلحة صندوق احتياطي الأجيال، إذ حوّل إليه 68 مليون دينار فقط، بما يوازي 1 بالمئة فقط الفائض المسجل بالحساب الختامي، إلّا أن المقترحات النيابية ذات الكلفة المالية لم تتوقف.

Ad

ضخ واهمال

ومع أن مقترحات كزيادة بدل الإيجار وقروض الزواج والبناء إلى المطالبة برفع مكافآت طلاب الجامعة، وصولاً إلى إقرار اللجنة المالية البرلمانية الأسبوع الجاري مقترح مضاعفة بدل العلاوة الاجتماعية للأبناء من 50 إلى 100 دينار، من دون تحديد سقف معيّن للإنجاب، ذات كلفة مالية مليارية لسنوات قادمة، فإنّ الاعتراض على الأثر المالي على الميزانية قد أشبع نقاشاً وبحثاً، في حين أن ما يستحق الدراسة والتحليل هو معرفة كيفية تحسين المستوى المعيشي للمواطنين فعلياً، برفع مستوى الرفاهية، وليس بمجرد ضخ الأموال، مع إهمال حل الأزمات مع تفاقمها أو تجاهل تحديات حقيقية ربما لا تستطيع مليارات الدنانير معالجتها.

الأمن الغذائي

خلال هذا الشهر، برزت على واجهة الأحداث قضيتان تؤثران بشكل مباشر على المستوى المعيشي للمواطنين واستدامة أوضاعه المريحة، الأولى ذات بُعد عالمي تتعلق بإعلان الهند عن سياسة حمائية مفاجئة ترتّب عليها منع تصدير الأرز خارج البلاد، بالتزامن مع إعلان روسيا وقف العمل باتفاقية تصدير الحبوب مع أوكرانيا، وأبرزها القمح والذرة والشعير، مما ينذر بحدوث ارتفاع أسعار عالمي في أسعار الغذاء، ومخاطر في تدفّق السلع الغذائية، وهما أمران يمسّان - من دون شك - دولة كالكويت تستورد ما يتجاوز 90 بالمئة من احتياجاتها الغذائية من الخارج، حتى لو طمأنت الجهات الرسمية بوجود مخزون استراتيجي من الغذاء لمدة سنة، فسوق الغذاء العالمي يعاني ارتباكا غير مسبوق منذ جائحة كورونا، وهو مرشح لمزيد من التداعيات والتقلبات التي تؤثر سلباً على احتياجاتنا الغذائية، وبالتالي المستوى المعيشي للمواطنين.

الأحمال الكهربائية

أما الأمر الثاني الذي استجد أيضاً في الأسابيع القليلة الماضية، فهو محليّ، ويتعلق بتسجيل مؤشر الأحمال الكهربائية مستويات قياسية هي الأعلى في تاريخ الكويت، ببلوغه 16500 ميغاواط، وما يصاحبها من انقطاع التيار الكهربائي عن بعض المناطق السكنية، وهو أمر إن كان مؤقتاً بطبيعة أسابيع ذروة الاستهلاك، إلا أنه من ناحية ثانية يفتح الباب لأسئلة جوهرية حول قدرة إنتاج الطاقة الكهربائية على تغطية الطلب المتوقع في المدن الجديدة خلال سنة أو سنتين على الأكثر، كالمطلاع، وتكلفة الإنتاج المتصاعدة وأثرها على فاتورة دعومات الطاقة.

تدهور ومحفز وسياسات

ومع تدهور القضايا المزمنة كتردي الخدمات في التعليم والصحة والإسكان، أو تفاقم قضايا مستجدة، كالتضخم والطرق والممارسات الاحتكارية، وما يترتب عليها من غلاء بالإيجارات والسلع، تبدو مسألة تحسين المستوى المعيشي للمواطنين أعمق بكثير من مجرد زيادات تعمّق الأعباء المالية على الدولة، ولا تحقق أهدافها الاجتماعية بتحسين الأوضاع المعيشية للطبقة المتوسطة فما دون، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المحفز الأول لتنامي المشاريع الشعبوية ذات الكلفة المالية المتراكمة لسنوات قادمة هو الإخفاق الحكومي المزمن في مجال الخدمات العامة، وهو ما يستحق العمل على معالجته بالتوازي مع مراجعة الدعومات المالية وتوجيهها نحو الفئات الأقل دخلاً كي تحقق الهدف من وجودها.

ولعل فكرة تحسين المستوى المعيشي للمواطنين من خلال زيادة التدفقات النقدية أمر ربما تنفرد به الكويت من بين دول العالم من جهة الرغبة في ضخ الأموال لمواجهة الغلاء، في حين أن دول العالم كافة تعمل على تشديد السياسة النقدية وسحب السيولة من السوق لخفض الطلب، وبالتالي تراجع الأسعار بالتوازي مع سياسات أخرى مستدامة، كالحد من الاحتكار وتشجيع الصناعة المحلية، وغيرهما.

الدخل المتحرك

لكن اللافت في مسألة تحسين المستوى المعيشي للمواطنين من خلال الزيادات المالية هو إغفاله مسألة مدى خلق فجوة معيشية بالمقارنة مع الوافدين الذين يشكّلون نحو 70 بالمئة من إجمالي سكان الكويت، معظمهم من أصحاب المهن الخدمية كالبناء والصيانة والتعليم وغيرها، أي الدخل المتحرك، وبالتالي، فإن رفع رواتب الكويتيين بمميزاتهم المالية سيترتب عليه فجوة زيادة في أجور أصحاب الدخل المتحرّك (الوافدين)، الذين يرتبط معظمهم بأعمال خدمية يحتاجها السوق الكويتي، سواء كانت صغيرة أم كبيرة، وعليه فإن الزيادات المالية المقترحة لن تحقق مبتغاها مادامت هناك فئة أخرى كبيرة ومؤثرة من أصحاب الدخل المتحرك أو المرن - وهم الوافدون - ستعوّض الفارق في هذه الفجوة من أموال زيادات المواطنين، وهذا أمر متوقع وطبيعي في ظل الاختلال السكاني وأوضاع سوق العمل.

اخر السلسلة

إن تحسين المستوى المعيشي للمواطنين أو لكل من يسكن في البلاد هو ما يجب أن يكون الشغل الشاغل لأي حكومة تستهدف تحقيق الرفاهية والرخاء على المدى الطويل، وهو ما يستوجب إعادة صياغة مفهوم الرفاهية من حيث تحسين الخدمات العامة، وضبط مستويات التضخم، والحد من الاحتكار، وإتاحة فرص رفع مستوى الدخل، وتعزيز الفرص في بيئة الأعمال والاستثمار، وقدرة الاقتصاد على خلق الوظائف، ومتانة أنظمة الضمان الاجتماعي، وصولا الى البيئة والترفيه والحريات العامة والشخصية، وهي مفاهيم تجعل أدوات كضخ الأموال في آخر سلسلة تحسين المستوى المعيشي بأي مجتمع في أضيق الحدود بلا توسّع أو تعميم.