هو كما هو بالدرجة نفسها للا متوقع أو ما يعرفه بعض الناس بالجنون، وربما هو خاص فقط كما هو لا يشبه أحداً، ولا يختلف عن أحد ولا يدّعي أنه مثل أحد، ربما هو فقط ولا شيء غير ذلك تقبله كما هو أو تبتعد عنه رغم أنك تكون مدركاً وعارفاً علم اليقين أن له قلباً كالحليب أو هو بلونه لا بمفعوله على المعدة!!

جاءت مكالمته قبل أسابيع ليخبرها بقدومه إلى تلك المدينة التي كانت هي فيها، لم يقل لها إنه قادم لها أو من أجلها فقط لأن لديه مجموعة من الكتب التي عمل عليها لسنوات، وهو قادم للتفاوض على طباعتها مع إحدى دور النشر. عرضت هي المساعدة وتكلم هو كعادته بكثير من المواضيع دون أن تستطيع أن تفهم منه ما يريد أن يقوله أو ربما ما الهدف من المكالمة، ضحكت بعد انتهاء المكالمة وعادت ليومها وما تبقى منه من تفاصيل مملة وعادية جداً.

Ad

مضى الوقت أو ربما حتى التاريخ الذي حدده لوصوله إلى مدينتها ولم تنتبه لا هي ولا أجندتها المتوزعة بين الورقية والإلكترونية، وفجأة جاء اتصال آخر منه وبعد كثير من الكلام المتنقل بين عدد من المواضيع عرفت أنه جاء وعاد دون أن تلتقيه أو يلتقيها كيف؟ ولماذا؟ كلها تفاصيل بالنسبة إليه أما هي التي كان من المفترض أن تكون قد اعتادته كما هي حال العديد من الأصدقاء المقربين منه، وقفت حائرة للمرة الألف من تصرفاته التي لم تستطع أن تجد لها أي تفسير.

بعد أيام عرفت من الأصدقاء أنه يمر في ظرف من الحزن وربما الإحباط، ولذلك عليها كما عليهم هم أن يتفهموه ويستوعبوه، وربما الأهم أن يحتضنوه، لقد فقد الكثير من الأصدقاء والرفاق المقربين في فترة زمنية سريعة.

هو الذي لا يشبه إلا زمنه ذاك، مر بفكرها وهي تنتقل من جريدة إلى أخرى في ذاك المتحف الذي كرس مساحته للصحافة العربية القديمة أو للصحف التي بدأت قبل قرن أو أكثر، ما علاقته هو بالصحافة؟ لا شيء سوى أنه كان يوماً الخبر، أو ربما لو كانت هناك صحافة حرة لكان هو عنوانها عندما كانت الحركة العمالية في دولنا العربية وغير العربية هي التي تحرك الشارع، وتدافع عن الفقراء والمستضعفين، وتعمل على صياغة القوانين التي تحمي العاملين والعاملات، وتضع لهم أنظمة للضمان الصحي ونهاية الخدمة وغيرها.

لماذا هو من تذكرته وهي تمر وتدقق في عناوين الصحف والمقالات المكتوبة قبل سنين من الزمن، وفي الصحف الأولى التي، وعلى فكرة، تحمل في معظمها أسماء شبيهة للجديدة منها، وكأن الإبداع والفكر لم يستطع أن ينتج سوى تكرار ما كان ومضى.

المتحف كان تحت عنوان «بدايات الصحف العربية»، وأراد منظموه ربما أن يذكرونا أننا لانزال نعيش الأزمات نفسها وكذلك التعصب والفساد والتمييز والطائفية و... و...!! وربما المؤامرات التي تحاك من خارج الأوطان، لكن معظم أبطالها محليون جداً! الأمراض نفسها لا تزال تنهش الأوطان، فالأقلام الحرة أو الإعلاميون الحقيقيون لا «الكتبة» تضطر للهرب من مدينة وبلدة إلى أخرى حتى تستقر في أبعد نقطة عن الاضطهاد والظلم وكبت الحريات، وأهمها حرية الرأي والتعبير، وكل ذلك لا يزال داء ينهش قلب الأوطان إن لم يكن أدمغتها، كلها كانت تتحدث عن الحقوق، الحق في العمل والصحة والتعليم والتعبير والمشاركة في صنع القرارات، رغم أنهم لم يكونوا واضحين في تفسيرها بهذا الشكل، وحق المرأة والأقليات والطوائف، ألا يبدو الأمر وكأنه الحال هنا والآن؟

وعلى جانب الصحف والمعرض تماثيل لشخصيات كرست في وجداننا أو هو وجدان بعضنا حتى لا يتهم المرء بأنه ينتهك حق الرأي في الاختلاف!! ومنهم بعض النساء كزينب فواز أول امرأة تكتب الرواية باللغة العربية التي صدرت روايتها عام 1899، ومنهم جميل صدقي الزهاوي الذي كان من أوائل من تطرقوا لقضايا تبدو أكثر حساسية الآن من حينها مثل سفور المرأة فقد كتب «زعموا أن في السفور انثلاما... لا يقي عفة الفتاة حجاب»، وكان رائدا وتنويريا وآخرين وأخريات.

ما علاقة صديقنا المحبط بمعرض «بدايات الصحف العربية» في ذاك المتحف شمال لبنان؟ هو ربما الإحساس بكثير من الفخر بكل من ساهم في تنوير وفتح النوافذ في بلداننا المغلقة، وربما ذاك الشعور العميق بأنه هو ربما على حق ليكون يأساً في بلدان لم تغير من نفسها، ولم تتقدم كثيراً، بدليل عناوين صحفهم ومواضيع المقالات في جرائدها منذ بداياتها الأولى.

كم نحن بحاجة للتذكير دوما بكل من قدموا كثيراً من التضحيات لنكون نحن اليوم في مكان أفضل مما نحن فيه، من قلة الحيلة، وانعدام الحقوق، وانتشار الفساد، وانحطاط القيم والأخلاق! كم كان المعرض مفرحاً محزناً!!

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.