مثّل حديث وكيلة وزارة المالية أسيل المنيفي خلال اجتماع لجنة الميزانيات والحساب الختامي البرلمانية، بشأن خضوع الحكومة للضغوط النيابية في تخفيف شروط «بيع الإجازات»، مما أدى إلى رفع تكلفتها الإجمالية المقدرة بـ 300 مليون دينار إلى نحو مليار دينار، تقويضاً لكل مبررات تسويق «مشروع قانون الدَّين العام» الخاصة باشتراط إنفاق أموال الاستدانة على مشروعات اقتصادية ذات قيمة تنموية، كما ورد في برنامج عمل الحكومة 2023 - 2027.

ومع استمرار سيل لا يكاد يتوقف من المقترحات النيابية ذات الكلفة المالية المقطوعة مرة واحدة أو المستمرة لسنوات بتكاليف متزايدة، يبدو أن تمرير الحكومة لمشروع قانونها الخاص بالإذن بالاقتراض حتى 20 مليار دينار بسقف زمني يمتد إلى 30 عاماً دون تقديم تنازلات شعبوية أمر أشبه بالمستحيل، لا سيما أن الضغوط النيابية، التي نجحت في رفع كلفة صرف بدل بيع الإجازات بأكثر من 3 أضعاف إلى مليار دينار، تستطيع أن تقتطع من مليارات الدَّين العام الـ 20 ما تشاء لتمويل سداد مقترحات يغلب على أكثرها الطابع الانتخابي، دون قدرة حكومية على التصدي لهذه الموجة، إن لم تصعّدها كما فعلت حكومات سابقة.

Ad

ترف وفشل

وعلى الرغم من أن برنامج عمل الحكومة المعلن الأسبوع الماضي حصر أوجه إنفاق الدَّين العام المرتقب على «مشروعات اقتصادية ذات قيمة تنموية» وهذا أفضل بكثير من مشاريع سابقة كانت تستهدف صرف 60 في المئة على المشروعات الاقتصادية و40 في المئة على متطلبات سد العجز في الميزانية العامة للدولة، فإنه «أي برنامج العمل الحكومي» لم يحدد طبيعة هذه المشروعات الاقتصادية ومساهمتها في إصلاح الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد الكويتي كسوق العمل للعمالة الوطنية أو تنمية الإيرادات غير النفطية ومدى قدرتها على تغيير أوجه النشاط الاقتصادي في البلاد، فإذا كانت أسعار النفط الحالية المرتفعة - والتي لا تزال عاجزة عن تغطية مصروفات الميزانية لعام 2023 - 2024 - تسمح بترف مضاعفة تكلفة بيع الإجازات وصولاً إلى مليار دينار دون مراجعة لآثارها على المالية العامة، فإنه لا يتصور أن تمنحنا أوضاع سوق النفط في زمن تزاحم فيه الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية نظيرتها الطاقة التقليدية ومنتجاتها فرصة الإخفاق في مشاريع «اقتصادية» تمويلها مرتكز على اقتراض الدولة من الدَّين العام.

الإدارة لا الفكرة

ولعله من المفيد القول، إن الاعتراض على الدَّين العام ليس في فكرته فأكبر اقتصادات العالم كالولايات المتحدة واليابان وبريطانيا والاتحاد الأوروبي هي من تتربع على عرش الديون العالمي، وهي نفس الوقت أكبر الاقتصادات الصناعية في العالم، فأموال الاستدانة تتوجه نحو المشاريع واستهداف النمو الاقتصادي، إنما الاعتراض هو على طريقة إدارته التي جعلت دولاً مثل مصر والعراق ولبنان وفنزويلا شبه مفلسة أو فاشلة عندما استخدمت أموال الديون في الصرف على الإنفاق الجاري البعيد كل البعد عن العوائد المالية أو التنموية أو الاقتصادية. وحسب تجارب الكويت الماضية خلال السنوات القليلة الماضية، فإن إدارة المالية العامة في الكويت أقرب إلى نماذج الدول التي انحرفت عن أوجه الاستثمار الحصيف لتدفقاتها المليارية.

إخفاق ودرس

فخلال السنوات التسع الماضية، أي منذ تدهور أسعار النفط العالمية نهاية عام 2014 وتحول ميزانية الكويت مع نظيراتها الخليجية من سنوات الفوائض المالية إلى العجوزات، مر على مالية الكويت العامة حدثان يثبتان أن الاستحقاقات حتى وإن كانت بمليارات الدنانير، فلا يعني ذلك لا دروساً ولا عبر، فمن ناحية استهلكت الكويت منذ عام 2014 -2015 كامل الرصيد النقدي في الاحتياطي العام للدولة لتغطية عجز مصروفات الميزانية لنحو 5 سنوات بقيمة توازي 50 مليار دينار لم يوجه أيّ منها لمشروعات اقتصادية ذات قيمة تنموية بل لسداد الإنفاق الجاري أو الاستهلاكي للرواتب والدعوم، ناهيك عن أن القرض الدولي الذي جمعته الكويت عام 2017 بقيمة 8 مليارات دولار تم سداد الشريحة الأولى المحددة لأجل 5 سنوات بقيمة 3.5 مليارات دولار، فيما تحل الشريحة الثانية من القرض البالغة قيمتها 4.5 مليارات عام 2027 وكان هذا القرض أيضاً لتغطية التزامات الميزانية العامة وليس لتمويل مشاريع ذات عائد اقتصادي أو مالي مستدام.

أعمق من التصنيف

اللافت في مسألة الدَّين العام هو حديث وزارة المالية في مجلس الأمة من خلال مدير إدارة الاقتصاد الكلي فيها عبدالعزيز العصيمي أن من أهم مبررات تمرير قانون الدَّين العام هو المحافظة على تصنيف الكويت الائتماني، وفي الحقيقة، فإن التصنيف الائتماني أمر مهم لأي دولة لكن يجب الأخذ به في سياقه السليم دون تهويل أو تهوين، فأي تصنيف هو بالنهاية يخاطب شريحتين هما الدائنون والمستثمرون الأجانب، وهو أقرب إلى وصف لحالة اقتصادية في زمن معين أكثر من أنه دراسة عميقة لوضع الاقتصاد ويرتبط بتكاليف الاقتراض للدولة وبنوكها، وفي المقابل، فإن أزمات الاقتصاد الكويتي باتت مزمنة وليست بحاجة لتصنيف من أي مؤسسات دولية، بقدر ما هي بحاجة إلى العلاج الفعّال والسريع.

صحيح أن خفض التصنيف الائتماني للكويت تكتنفه بعض المخاطر على المدى المتوسط، كارتفاع كلفة الدَّين أو خفض تصنيفات البنوك أو تراجع الاستثمار الأجنبي في البلاد - وهو بالمناسبة في الكويت لا يتعدى 0.5% من جملة الاستثمارات الواردة إلى دول مجلس التعاون الخليجي سنوياً - لكن في المقابل أيضاً كلفة التهاون في الإصلاح الاقتصادي على المديين المتوسط والطويل مع التوجه للاقتراض دون حصافة في الإنفاق تمسّ أصول الدولة واحتياطياتها، وبل وحتى الرفاهية المالية التي تقدمها لمواطنيها ناهيك عن أن مؤسسات التصنيف الائتماني - وهي بآرائها غير ملزمة وتخضع لكثير من النقد - تحدثت أيضاً أن ضعف كفاءة المؤسسات الحكومية - كما ورد في تقرير وكالة «ستاندرد آند بورز» في يناير 2021 من الأمور التي تؤثر على التصنيف الائتماني لدولة الكويت، وهو أمر يستحق العمل على معالجته ربما أكثر من الحاجة للاستعجال بالدَّين العام.

نماذج الحصافة

لا يمكن فهم الحاجة إلى تمرير قانون الدَّين العام مالم تقدم الدولة نماذج بالحد الأدنى من الحصافة على المدى القصير تبين فيها على الأقل جديتها في ضبط مصروفات العامة من خلال غربلة ميزانية 2023 - 2024 المتوقع مناقشتها في مجلس الأمة الشهر المقبل أو توضح من خلال مشروعها للبيان الختامي السنة 2022 - 2023 كيفية إدارتها للمصروفات بما يختلف عن أي حكومة سابقة أم لا مع الأخذ بعين الاعتبار أن مسألة التعامل مع انفلات تكاليف «بيع الإجازات» على أنه « حدث وعدى» هو أمر يقوّض أي قناعة بقدرة وجدارة الإدارة الحكومية على إدارة مسألة عالية المخاطر كالديون السيادية.