لا يحتاج أحد أن يزور بكين بنفسه ليعرف أن عاصمة الاقتصاد الثاني في العالم هي مدينة عصرية بكل المقاييس، لكن عندما تذهب إلى بكين للمرة الأولى لا تعود هذه المعرفة البديهية كافية لوصف هذه المدينة، التي تعكس في كل تفصيلة بها تطلّع الصين الجديدة إلى الريادة.

وإذا كانت بكين ليست العاصمة الاقتصادية للبلاد، فإنها تبقى العاصمة السياسية حيث مقرات ومؤسسات الحكم المركزية، ومقرات الشركات الصينية العملاقة التي أثبتت حضورها دولياً مثل هواوي وعلي بابا وغيرهما.

Ad

«الجريدة» قامت بجولة في العاصمة الصينية استمرت 4 أيام، برفقة وفد من وسائل إعلام كويتية، بدعوة من سفارة الصين لدى الكويت، وشاركت بكثير من الاهتمام في برنامج حافل من الأنشطة السياحية واللقاءات الرسمية، للتعرف أكثر على المدينة والدور الذي تؤديه، كما تعرفت بشكل أكثر قرباً إلى وكالة «شينخوا» الصينية للأنباء، وتلفزيون CGTN، وهما وسيلتا إعلام صينيتان تعملان بجد للوصول إلى الرأي العام العربي والخليجي بما في ذلك الكويت.

مركز الصين

المعنى الحرفي لبكين هو العاصمة الشمالية، ويعود تاريخ المدينة إلى نحو 3 آلاف سنة وحملت أسماء متعددة، والآن بقاؤها عاصمة للبلاد للسنوات الـ 700 الماضية حوّلها إلى أحد رموز الدولة، وشكل ثقافة خاصة تحيط بها تتجلى في الكثير من الملامح الشعبية المحلية. تعتبر المدينة مركز السياسة والثقافة والعلوم والتعليم وأيضاً محور خطوط المواصلات في البلاد كلها.

الانفتاح

رغم وقار المدينة كمركز للحكم، تشهد بكين انفتاحاً اجتماعياً ملحوظاً خصوصاً لناحية انتشار الثقافات المعولمة في الأزياء والموسيقى وأنماط العيش. حياة الليل مزدهرة، كما تعج المطاعم والمقاهي بالرواد خلال النهار. إنها ليست الصورة النمطية عن الصين التي يحكمها الحزب الواحد أو صورة الطلاب الذين يرتدون زياً موحداً والشبان الحزبيين المنضبطين. وكذلك فهي ليست الصورة النمطية عن مدينة مغلقة على الغرب ومنتجاته بل على عكس ذلك تماماً، وهذا مجرد انعكاس للدور الذي لعبته الصين في الاقتصاد العالمي، عندما أصبحت مقراً للكثير من الشركات الغربية العملاقة ولم يعد هناك منتج غربي واحد خال من «البصمة» الصينية.

«نريد أن ننمو»

منحت السطات الصينية الوفد الكويتي تصريحاً مفتوحاً لمقابلة أي شخص وطرح أي سؤال عليه من دون أي نوع من الرقابة. وعندما سألنا أحد سكان العاصمة من الشباب حول رؤيته للتنافس المحتدم بين بكين وواشنطن، أجاب بكل بساطة: نحن لا نريد إلا أن ننمو. هذا الإحساس العالي الذي يملكه الصينيون لتحقيق الإنجازات هو أحد الانطباعات الذي تتركه بكين لدى زوارها. الأمن الذي تتميز به المدينة والتنظيم العالي والدقيق لكل جوانب الحياة اليومية، يعززان كذلك هذا الانطباع.

مسؤول صيني«خريج» الكويت

في بكين، التقى الوفد الكويتي المدير العام لإدارة غرب آسيا وشمال إفريقيا بدائرة العلاقات الخارجية للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، جياو تشي شين، وهو يتكلم العربية وقد درسها في الكويت، التي استفاض في الحديث عن تجربته في الإقامة بها، هو القادم من أحد أرياف الصين التي كانت في ذلك الوقت تشهد أوضاعاً اقتصادية سيئة وتعاني الحرمان. واستذكر الخدمات التي كانت تقدمها الكويت للطلاب، ووسائل الراحة التي كانت متوفرة آنذاك في البلاد واقتصادها الذي كان ينمو ويزدهر بسرعة.

شينخوا وCGTN

زارت «الجريدة» برفقة وفد من وسائل الإعلام الكويتية، مقر وكالة الأنباء الوطنية الصينية (شينخوا) في بكين، في شارع تشوانيومن ويست، داخل مجمع يحتوي أبنية كثيرة بينها برج عملاق يحمل اسم «مبنى قلم الرصاص».

أُسست الوكالة عام 1931، وأصبح لديها الآن أكثر من 200 فرع في داخل الصين وخارجها، ويبلغ عدد موظفيها أكثر من 12 ألف صحافي ومراسل وفني، ولديها مكاتب في 182 دولة بينها الكويت، منها 7 مكاتب إقليمية عامة.

تبث الوكالة يومياً وعلى مدار 24 ساعة نحو 8000 مقال وخبر بـ 15 لغة من ضمنها العربية، ولديها 8 قنوات خاصة بنشر الأخبار والصور والفيديو، وتُقدّم المقالات والصور الفوتوغرافية والبيانات والصوت والفيديو لنحو 10 آلاف مستخدم حول العالم، كما تملك أكبر قاعدة بيانات إخبارية متعدّدة اللغات في صناعة الإعلام بالصين.

تمتلك «شينخوا» أول قسم تحرير ذكي في العالم، وأطلقت «العقل الإعلامي» لإنتاج الأخبار بشكل آلي، وأول مذيع اصطناعي من الذكاء الاصطناعي في العالم وأكبر منصة بث مباشر إخباري في الصين Live C loud، إضافة إلى أعمال إخبارية عن طرق الطائرات من دون طيار والأقمار الاصطناعية، وVR والرسوم المتحركة الثلاثية الأبعاد وغيرها من المنتجات، مما يؤدّي إلى ابتكار تكنولوجيا وسائط الإعلام وتطويرها عالمياً.

داخل وكالة شينخوا

وبعد جولة في أقسام المباني التابعة للوكالة، وفي معرض يحمل تاريخها منذ تأسيسها، زار الوفد الاستديو الذكي المكعّب الجديد التابع لـ «شينخوا»، وعاش تجربة المشي على القمر والإبحار عبر سفينة شحن في بحر هائج عبر تقنية الواقع المعزز.

كما زار الوفد في بكين المقر الرئيسي لشبكة تلفزيون الصين الدولية CGTN التي أُسست في 2016، كان للوفد لقاء مع المسؤولين عن القسم العربي فيها، حيث قدّم مدير القسم العربي في الشبكة تشيا بونغ، نبذة تاريخية عن تأسيس «مجموعة الصين للإعلام» CMG، لافتاً إلى أنه لدى المجموعة قنوات باللغات الست المعمول بها في الأمم المتحدة بما فيها العربية.

وقال إنه «بالنسبة للقناة العربية، فقد أسست في 25 يوليو 2009، لتعريف الدول العربية عن أخبار الصين والأخبار العالمية»، موضحاً أن عدد متابعي شبكة CGTN فاق 20 مليون متابع حول العالم حالياً.

وأوضح أن الشبكة التي يعمل في قسمها العربي نحو 200 موظف، نشرت 14 منشوراً منذ بداية العام عن التعاون بين الصين والكويت، بما في ذلك شركة كويتية ترى في مبادرة دعم المشاريع الصغيرة فرصة للتطوير، مشدداً على حرص الشبكة الدائم على التعاون مع وسائل إعلام عربية في إنتاج المحتوى وبثّه ونشره على شاشات ومنصات التواصل الاجتماعي للجانبين.

مركز المعارض والمؤتمرات التابع لـ«هواوي» في بكين

وقال تشيا: «سنقوم بتجديد برامج الأخبار هذا العام من حيث المزيد من المناقشات المباشرة مع خبراء صينيين وعرب، كما سنتعاون مع 50 مؤسسة عربية بينها مجلة العربي الإلكترونية، كما نسعى للاندماج التقني من خلال الذكاء الاصطناعي»، لافتاً إلى أنه تم إطلاق «منصة الخدمات الإعلامية المتعددة الوسائط» (AMSP) التابعة لـ «مجموعة الصين للإعلام»، أمام المستخدمين العالميين لتوفير خدمات عرض وتبادل المواد الإعلامية المرئية والمسموعة.

الجامعة والسور و«المحرّمة»

أجرى الوفد زيارة إلى جامعة بكين، إحدى أعرق جامعات الصين وتفقد قسم اللغة العربية فيها، الذي يخرّج العشرات سنوياً من الطلاب الصينيين. وكان هناك لقاء مع مدير القسم العربي وأستاذة القسم وبعض الطلاب الذين كان لديهم اهتمام واضح بتاريخ وحاضر الكويت السياسي والحركة الإعلامية المزدهرة فيها. وكان واضحاً من خلال الدردشة مع الطلاب الأهمية التي توليها الصين للتعليم، والسعي لبناء جيل من النخبة والكوادر الفائقة التعليم والإعداد، وتبين لنا أن معظم طلاب القسم العربي يتحدثون كذلك لغتين أو ثلاث لغات إضافية إلى جانب الصينية.

وكان للوفد جولة على أحد أقسام سور الصين العظيم في بكين. والسور الذي يبلغ طوله حوالي 21.196.18 كيلومتراً هو أحد أهم مواقع التراث العالمي واختير واحداً من عجائب الدنيا السبع الجديدة، ويعتبر علامة جغرافية وثقافية مميزة في الصين، ورمزاً روحياً للأمة الصينية أيضاً. وفي بكين هناك 8 أقسام من السور مبنية بمواد مختلفة ولديها خصائص متمايزة وتعتبر من الأقسام الأكثر حفظاً. ويقال إن العمل استمر في السور لمدة نحو 500 عام وهو ما يعكس النفس الطويل والاستمرارية والتصميم الذي يتمتع به الصينيون.

وكانت هناك جولة في المدنية المحرمة وهي مدينة ضخمة في قلب بكين بنيت في عام 1420 في عهد الإمبراطور يونغلي من سلالة مينغ، وكانت تستخدم كمنطقة عمل وسكن حصرية لـ 25 إمبراطوراً. سميت المدينة المحرمة لأن جميع الأباطرة كانوا يعتقدون أنهم أبناء السماء وممثلو الألهة على الأرض والإقامة الإمبراطورية كانت المركز الكوني، لذلك يجب أن تكون محظورة على عامة الناس.

ونختم باقتباس ذات مغزى للرئيس الصيني شي جينبينغ يقول فيه: «البلد لن يكون قوياً أو ضعيفاً إلى الأبد. يساهم التطبيق السليم للقانون في تعزيز سلطة البلاد، خلاف ذلك يضعفها»، تبدو هذه المقولة حاضرة تماماً في بكين التي يعكس كل شيء فيها تصميم الصين على الريادة دون نشوة بالإنجازات أو تهرب من الإقرار بالعثرات والهفوات، بل فعل ما يجب أن يُفعل تماماً.

مسلمو بكين ومسجد نيوجه

يعيش في بكين نحو 220 ألف مسلم يتركز معظمهم في حي شارع الأبقار، والذي دعي كذلك لكونه ظل مكاناً لتجارة الأبقار التي سيطر عليها المسلمون لقرون من الزمن في بكين.

وكان لابد للوفد من زيارة مسجد نيوجيه، وهو من أقدم مساجد العاصمة ومنطقة شمال الصين، إذ بني في عام 996 على يد الشيخ نصرالدين والذي يقول الصينيون إنه بحار وعالم وداعية عربي قدم للصين في منتصف القرن العاشر الميلادي، وشغل منصباً رسمياً في بلاط أسرة لياو.

وتبلغ مساحة هذا المسجد نحو 6000 متر مربع، وتتسع قاعة الصلاة فيه لنحو ألف مصل في آن واحد. ومع أن مبانيه لا تختلف عن القصور الكلاسيكية الصينية شكلاً وتوزيعاً إلا أنها مميزة بالزخارف الإسلامية الطراز، ويمكن معاينة الكثير من الكتابات العربية.

واستمع الوفد الكويتي لشرح وافٍ من إمام المسجد وأحد مساعديه لأحوال المسجد وأوضاع المسلمين في مدينة بكين، حيث يعيشون بانسجام تام.

«هواوي» و«علي بابا»

استضافت شركة «هواوي» العملاقة الوفد الكويتي في مركز المؤتمرات والمعارض التابع لها في بكين، وقدمت عرضاً لأبرز مشاريعها حول العالم وحجم عملياتها المتنامي وأحدث ابتكاراتها في قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بما في ذلك أنظمة الذكاء الصناعي التي تدير الموانئ والمطارات وأنظمة النقل العام والسير، وأنظمة السيارات الكهربائية الذاتية القيادة، إضافة الى مجموعة واسعة من التكنولوجيا الذكية في مختلف القطاعات. وتناول الوفد الغداء في مبنى الضيافة الذي بني على طراز القلاع الأوروبية في جو من الرفاهية.

مركز المعارض والمؤتمرات التابع لـ«هواوي» في بكين

وشملت الزيارة مقر مجموعة «علي بابا» الرائدة في مجال التجارة عبر الإنترنت حيث استمع الوفد إلى حجم عمليات الشركة داخل الصين، والخدمات المبتكرة التي تقدمها في كل ما يتعلق بالشراء الإلكتروني والتوصيل. واستعرض مسؤول في الشركة التحديثات الأخيرة على محرك بحث التسوق الخاص بالشركة وخدمات الحوسبة السحابية الجديدة وابتكارات خاصة بخدمات الدفع عبر الإنترنت وتجارة الجملة والتجزئة.